قبل فترة قصيرة صدرت مقالات "فرد هاليداي"، الكاتب والمثقّف البريطانيّ (الإيرلنديّ)، التي سبق أن نشرها على موقع "الديمقراطيّة المفتوحة" Open Democracy البريطانيّ بالتعاون بين هذا الموقع وبين "دار الساقي" في لندن. المقالات تلك، الممتدّة بين 2004 و2009، التي حملت عنوان "رحلات سياسيّة" Political Journeys (288 صفحة - قطع كبير) ليست رحلات أو زيارات بالمعنى الضيّق للكلمة الذي يعني الأمكنة حصراً. فالصديق الذي رحل قبل عامين، كانت له أيضاً زياراته للمفاهيم وللمعاني سواء بسواء. هكذا "زار" الثورات، واقعاً وفكرة، كما زار النسويّة والكونيّة (اليونيفيرساليّة) والمسألة القوميّة والتنميط المتبادل بين الجماعات، فضلاً عن إيران وكوبا وسواهما. والقارئ العربيّ لابدّ أن يعثر في كتابات فرد هاليداي، حتّى وهو يتناول مواضيع لا صلة لها البتّة بالشرق الأوسط، على حضور شرق أوسطيّ مميّز، أو بالأحرى حساسيّة شرق أوسطيّة تسهم، إلى هذا الحدّ أو ذاك، في توجيه رؤيته ومقاربته. وهذا ليس مستغرباً في كاتب ومثقّف صرف معظم جهده على قضايا العالمين العربيّ والإسلاميّ، لاسيما الخليج واليمن بشماله وجنوبه. وربّما جاز القول إنّ المنعطفات الأساسيّة في فكر هاليداي سارت في موازاة الأحداث الكبرى التي شهدها العالم الإسلاميّ، من الحرب الأفغانيّة على السوفييت إلى نزاعات اليمنين ثمّ وحدتهما، من غير أن ننسى الأثر الكبير لمحطّات الصراع العربيّ- الإسرائيليّ. والحال أنّ ما غيّر فرد هاليداي على نحو عميق كان حدثاً عربيّاً: إنّه غزو صدّام للكويت في 1990. يومذاك، ومن دون أن يتخلّى الكاتب عن أيّ من منطلقاته اليساريّة المبدئيّة (العدالة الاجتماعيّة، التحفّظ على معظم الاستراتيجيّات الغربيّة، الراديكاليّة النقديّة في الثقافة والاجتماع...)، بدأت مقولة الاستبداد تحتلّ موقعاً متصدّراً في وعيه وأدبيّاته. صحيح أنّه لم يكن مرّةً من المعجبين بصدّام ونظامه وبعثه، إلاّ أنّ ذاك الغزو علّمه أنّ المستبدّ لا يجوز تأييده كائنة ما كانت "القضايا" التي يزعم أنّه يمثّلها، وبغضّ النظر عمّا إذا كان يصادم "الإمبرياليّة" أو لا يصادمها. فصدّام حسين إنّما يُصار إلى تقييمه تبعاً للطريقة التي كان يحكم بها العراق والتي بلغت أدنى دركاتها مع قصفه أكراد حلبجة (أي أبناء شعبه كما يُفترض) بالسلاح الكيماويّ. وهذا الموقف إنّما وضع فرد هاليداي في موقع التعارض مع يساريّين غربيّين وعرب كثيرين سبق أن منحوا أولويّتهم لما اعتبروه تناقض صدّام مع "الإمبرياليّة" ومصالحها، غير مكترثين بحقيقة أنّ المستبدّ العراقيّ كان على أتمّ الاستعداد لإعطاء "الإمبرياليّة" كلّ ما تريده شرط تمسّكها به وبإبقائه في السلطة. لكنّ اختلاف "فرد" لم يقتصر على هذه المسألة وحدها. فهو نفر في وقت مبكر نسبيّاً من ظاهرات شرعت تسيطر على اليسار الغربيّ وتتحكّم برؤيته ومساره: فهو، مثلاً، لم يستسغ الطغيان المتعاظم للشعبويّة، خصوصاً مع الأسلمة المتعاظمة للقضيّة الفلسطينيّة على أيدي "حماس" وقوى مشابهة لها فلسطينيّة وعربيّة. ففي رأيه، تبقى مسألة فلسطين قضيّة وطنيّة عادلة ومحقّة ينبغي الحفاظ على صلتها بسائر القضايا العادلة والمحقّة في العالم، بدل تظهير وجهها الدينيّ الذي يفاقم اختلافها عن القضايا تلك. واستطراداً على ذلك، أبدى الكاتب كلّ الحذر الذي يمكن إبداؤه حيال دعوات النسبيّة الثقافيّة وما بعد الحداثويّة والخصوصيّة والقوميّة، باعتبارها خطراً على قيم الحداثة وعلى الكونيّة الإنسانيّة الجامعة. ذلك أنّ نكهة عنصريّة تفوح، في نظره، من هذه الأطروحات، لا يغيّر في ذلك صدورها عن جماعات تؤكّد على خصوصيّتها حيال الغرب لـ"مواجهة الإمبرياليّة". وهاليداي مثلما رفض تأييد المستبدّين بذريعة القضايا المحقّة، رفض أيضاً استخدام تلك القضايا لتأييد من يناهضون التقدّم أو يقفون في طريقه ويضعون في وجهه العراقيل. وفي هذا السياق، بدا دائماً شديد الإصرار على التمييز بين معارضة عدد من السياسات الأميركيّة الاستئثاريّة والعدوانيّة وبين ظاهرة مناهضة أميركا المستفحلة في بيئات اليسار الشعبويّ. فعنده، أنّ أميركا، مثلها مثل كلّ شيء آخر، ليست جوهراً واحداً، بل هي تنطوي على عدد لا حصر له من التمايز والتفاوت، مثلما تخضع لعدد آخر لا حصر له أيضاً من التحوّلات والاحتمالات. أمّا مناهضة أميركا كأنّها جوهر مطلق فيصحّ فيه ما يصحّ في أيّ مناهضة مطلقة تطاول العرب أو المسلمين أو اليهود أو أيّ من الشعوب والأديان والثقافات. وفي هذا المعنى يخبّئ عداء من هذا النوع ظاهرات ومشاعر ليست موضع استحسان الكاتب وترحيبه، إذ تتأرجح بين التغطية المَرَضيّة على فشل أصحابه وبين العنصريّة، مروراً بالقوميّة المتعصّبة والشوفينيّة. وعلى العموم فإنّ فرد هاليداي، أحد الشبّان الأوروبيّين اللامعين الذين فتحوا أعينهم على الشأن العامّ مع ثورات 1968، بقي وريث قيم التنوير وعقلانيّتها الرائدة، حيث التقدّم ونزع الأسطرة والسحر عن العالم وتكامل الديمقراطيّة والعلمانيّة بدل تضاربهما، هي الوجهة التي تحكم الوعي والحركة. فكتاب "رحلات سياسيّة" لا يُقرأ مجزّءاً، رحلةً رحلةً، بل يُقرأ كنصّ واحد متعدّد العناوين يؤدّي في مجموعه إلى رسم صورة عن فكر فرد هاليداي وعن عواطفه. لقد اختار "فرد" أن يقضي سنواته الأخيرة في مدينة برشلونه الإسبانيّة التي أولع بها تقدّميّو أوروبا: فهي كانت معقل الجمهوريّين وآخر قلعة يسقطها الفرانكويّون في الحرب الأهليّة ما بين 1936 و1939، وهي المدينة التي عاش فيها وعمل أكبر فنّاني إسبانيا، ثمّ حضنت أعمالهم بعد رحيلهم. إلاّ أنّها، قبل هذا وذاك، كانت عاصمة الكاتالانيّين المقهورين والمهمّشين في التاريخ الإسبانيّ. و"فرد" أحبّ المقهورين، خصوصاً منهم الذين لا يحوّلون قهرهم إلى بضاعة تنوب عن كلّ تحصيل آخر.