تُثار أحياناً في الإعلام عدة إشكالات لا حل لها. تثير الذهن، وتربك الموقف، وتميِّع الآراء، وتستقطب القراء حول النجومية الإعلامية التي لم تتغير منذ البداية حتى النهاية. بريقها إعلامي بعد طول غياب لجذب الأضواء. وغطاؤها أكاديمي لإبعاد شبهة الأهداف البعيدة ونواياها غير معلنة. ظاهرها تحليل سياسي، موضوعي محايد، نتيجة لخبرة طويلة في البحث العلمي والاستقصاء التاريخي. تبدو أكثر عمقاً سياسيّاً. وتدعو إلى التساؤل. تدعو إلى الصفح والمغفرة من شعب طيب لا يعرف القسوة أو الانتقام، كما حدث في الثورات الأخرى. أكثر اتفاقاً مع ثقافتنا وتاريخنا وعاداتنا وتقاليدنا، ما دامت التحولات قد انتصرت. أقل تكلفة. يكفي إرجاع الأموال والمنقولات إلى الدولة. والشعب يسامح. والله يقبل توبة التائبين. وكلها تعبير عن السياسة المزدوجة، واللعب على الحبلين، والالتفاف حول التغيير من الباب الخلفي، رجعية في ثوب تقدمي. إن خطورة تقديم السياسي على الجنائي هي التغطية عليه. والانحراف بالجريمة بعيداً عن عقوباتها. فالسياسي يمكن الرد عليه بسياسي آخر لا جرم فيه. الكل ممارسة للرأي والرأي الآخر. والأقلية اليوم أغلبية غداً. والأغلبية اليوم أقلية غداً. السياسي وجهة نظر لا يعاقب عليها القانون تقابلها وجهة نظر أخرى. والمحك هو صناديق الاقتراع بناء على البرامج الانتخابية والاختيارات السياسية والقوى الفاعلة في البلاد، الاتحادات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني. وهناك كثير من الفقهاء للسلطان. كانوا في سدة الحكم على مدى أربعين عاماً منذ السبعينيات حتى الآن، زادوا وعادوا وكرروا حتى نشأت أجيال لا تعرف إلا خيارات سياسية وحيدة: سيطرة رجال الأعمال على الحكم جمعاً بين المال والثروة، وانتشار الفساد، وبيع البلاد، مصانع ومزارع ومتاجر بما في ذلك الدقيق والغاز إلى إسرائيل. فالسيادة خيارات سياسية قبلها الشعب. ووافقت عليها المؤسسات الدستورية في معاهدات دولية بشهادة الدول الكبرى. وروج لها الإعلام الرسمي بحيث أصبحت أشبه بقناعات وطنية. وأصبح بديهيّاً عند كل الناس أننا نعيش في عصر السلام، وأن أكتوبر آخر الحروب، وأن السلام خيار استراتيجي، وأن إسرائيل وجدت لتبقى، ضد وهْم إزالتها من البحر إلى النهر. بل إن التطبيع معها اقتصاديّاً وارد، استيراداً وتصديراً. والعرب هم الذين ضيعوا أراضيهم برفض السلام والمواقف المعتدلة، والتنازل والتدرج، وبالتنازل عن المواقف الخطابية العصماء. لقد دخل العرب خمس حروب ولم يعبروا إلا قناة السويس، وسيناء منزوعة السلاح. والاستيطان في الضفة الغربية على أشده، وتهويد القدس قائم على قدم وساق، والجولان أصبحت في خضم النسيان. وجنوب لبنان استقر على حال تحت رعاية قوات الأمم المتحدة. لقد جلب السلام الرخاء. وأبعد ويلات الحرب. وجذب الاستثمار العربي والأجنبي. مصر أولًا ثم أخيراً. ويمكن محاربة الخصم بعدة طرق، وليس بطريقة واحدة. بالالتفاف عليه من الخلف وليس مواجهته بالسلاح، بالمكر والدهاء والخديعة، وليس بالعقل والفطنة والذكاء، وتطور الأسلحة بعيداً عن حرب الجبهات والمدرعات والمركبات والدبابات. وتجاوزت المدافع المتحركة إلى الصواريخ الثابتة بعيدة المدى، والطائرة بطيار آلي من دون طيار. أما الجنائي فإنه يستحيل الرد عليه بجنائي آخر إلا في حالة الثأر والانتقام. السرقة سرقة، والاحتيال احتيال، والغش غش، والرشوة رشوة، والمضاربة مضاربة، والنهب نهب، والقتل قتل، يعاقب عليه القانون. لا توبة فيه برد الأموال للدولة، أو بدفع فدية لأهل القتيل. فهذا هو الشق المدني. ويظل الشق الجنائي قائماً، حق الدولة وحق الشعب. ورد الأموال المهربة إلى الخارج والمنقولات لا يعفي من جريمة التهريب، والكسب غير المشروع. الجنائي هو إساءة استعمال السلطة، واستعمال الوظيفة العامة للارتشاء والإضرار بالمصالح العليا للبلاد، مثل بيع الغاز إلى إسرائيل بسعر أقل من سعر السوق لنيل العمولة، وبيع الدقيق إلى إسرائيل، وطوابير الخبز تطول يوماً عن يوم في مصر، وبيع القطاع العام بأبخس الأثمان لشركات خاصة بعد أخذ العمولات، وبيع أراضي الدولة بحجة الاستثمار، وطرح الأراضي للبيع دون شروط العقود، وتحول الوزراء إلى رجال أعمال وأصحاب شركات وجامعات ومشاريع داخل الدولة وخارجها. تحول الحزب الحاكم إلى رمز للجمع بين السلطة والثروة، وطريق الوصول إليهما، كأنه لا فرق بين تجار ومثقفين، بين طلاب مال وطلاب علم، بين أمانة سياسات وخيانة عهود. الجنائي هو ترويع المواطنين الآمنين، وتعذيبهم في أقسام الشرطة حتى الموت، وكذب التقارير الشرعية في سبب الوفاة. الجنائي هو مطاردة كل شاب نشط سياسيّاً، عضواً كان في حزب معارض أو في منظمة مجتمع مدني لحقوق الإنسان، أو في "كفاية" أو في "9 مارس" أو عضو اتحاد أو نقابة عمالية أو صحفية. الجنائي هو القضاء على استقلال الجامعات، والتدخل في انتخابات الطلاب، وتعيين رؤساء الجامعات والعمداء ورؤساء الأقسام، ومنع حرية التعبير عن الرأي، وإحاطة الجامعات بعربات الأمن المركزي وقوات الأمن بالعصي والخوذات، والاستعداد، انتباه. الجنائي هو تزييف الانتخابات عن بكرة أبيها، واستبعاد المعارضة بجميع أطيافها إسلامية أو وفدية باستثناء يساري معين في مجلس الشورى وتعيينه زعيماً للمعارضة الجديدة التي لا وجود لها. الجنائي عدم تنفيذ أحكام القضاء في بطلان معظم الدوائر الانتخابية الأخيرة، وتحديد الحد الأدنى للأجور. الجنائي إطلاق النار على المتظاهرين، وتصويب القناصة رشاشاتهم من أسطح المنازل على الرؤوس والأعناق. الجنائي التعذيب في السجون والمعتقلات حتى الموت. كلها جرائم جنائية وليست خيارات سياسية. وفي حقيقة الأمر ليس السياسي نقاشاً نظريّاً في العلوم السياسية من صاحب نظرية يناقشها زملاؤه في أحد مراكز الأبحاث السياسية بل هو جنائي أيضاً لأنه يتولد عنه فعل وقرار، ويأتي من أعلى سلطة في الدولة. يضر بالمصلحة العليا للبلاد اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً. فالتحالف مع أميركا قضى على سياسة التوازن بين القوى الكبرى التي تعودت عليها مصر منذ أوائل الثورة المصرية في 1952. والصلح مع إسرائيل جعل سيناء منزوعة السلاح. تقتل إسرائيل الجنود المصريين على الحدود. وتهدم الأنفاق بمن فيها. بل إن مصر تزيد من القلق على القطاع بإقامة ستار حديدي يعزله عن سيناء. ويمنع عنه ما تبقى من نفس للحياة بدعوى تهريب السلاح والمخدرات. لقد أدت عزلة مصر عن محيطها العربي إلى تفتيت الوطن العربي، العدوان على العراق، وتمزيق الصومال، وتقسيم السودان، والحرب الأهلية في لبنان. وهي ليست سياسات داخلية بل إملاءات خارجية. ليست تقديراً أو وجهة نظر أو اختياراً أو اجتهاداً. فلكل مجتهد نصيب. إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران. إن الرد على السياسي بسياسي هو إغفال للإجرام والتفاف حوله بل وذيوعه. فقد يحسن الرد ممن تعودوا على البلاغة وحسن البيان فيحسن الإجرام في عيون الناس، ويتزين للإنسان سوء العمل.