لعل حالة التبعية التي لم يسلم منها العالم العربي والإسلامي بعد مرحلة الاستقلال الوطني لبلدانه، كان لها دور مؤثر في إعاقة المشروع النهضوي العربي، وذلك لأن غالبية النخب التي كانت تقود تلك المرحلة وقفت داخل دائرة أيديولوجيا الغرب وفكره، دون أن تراعي الشروط اللازمة لبواعث النهضة، أو تعالج ما تنقله وتستورده من الآخر، سواء في مجال العلم أو التعليم أو التكنولوجيا أو السياسة أو الثقافة أو علوم الاجتماع والنفس... بصورة نقدية تخدم التقدم الوطني. لم تستطع تلك النخب التفكر فيما عند الآخر بصورة ناقدة، وطرحه في إطار التجريب والبحث والإضافة والابتكار. وذلك تحديداً هو الأمر الذي مكّن الأمة الإسلامية في السابق من أن تكون لها نخبة علمية متميزة ومنجزات علمية وحضارية عظيمة، حيث لم يكن علماء المسلمين مجرد نقلة أو مقلدين للفكر اليوناني أو الفارسي، كما يبين ذلك الدكتور محمد بن نصير في دراسته عن الأسباب التي أعاقت الحضارة الإسلامية عن تحقيق الثورة العلمية، بل كان أولئك العلماء شراحاً في المرحلة الأولى، ثم نقاداً ومبدعين في المرحلة الثانية، ولم يكتفوا بالاستدلال المنطقي، بل استخدموا المنهج التجريبي الذي أصبح نقطة ارتكاز للثورة العملية المعاصرة. ولنكتف هنا بمثال واحد هو ابن الهيثم الذي عمد أولاً إلى تصحيح الأخطاء الكثيرة التي وقع فيها العلماء اليونانيون في التطبيقات الفلكية وغيرها، كما بين خطأ إدعائهم بأن الإبصار يحدث بخروج شعاع من العين باتجاه الجسم المرئي، وأثبت تجريبياً أن العكس هو الصحيح... فتكونت من خلال هذا المنهج العلمي فلسفة علمية عالمية واضحة حددها ابن الهيثم ضمن منهجه في علم البصريات، قائلاً: "نبتدئ في البحث باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط ما يخص البصر في حالة الإبصار وما هو مطرد لا يتغير ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدرج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتفحصه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الأهواء". مع العلماء العرب إذن أصبح البحث والمنهج التجريبي والاستقراء والاكتشاف والاستدلال العلمي الدقيق، هو الطريق إلى الفتح الحضاري الذي حققه المسلمون بإنجازاتهم العلمية العظيمة. إن فَهْم هذه السنة التاريخية أمر مهم لمواجهة الضعف العلمي والفكري الذي يعانيه العرب في عصرهم الحالي، خاصة وأننا نتحدث منذ فترة طويلة عن مشروع يعيد للأمة مكانتها السابقة، لأن غياب المنهج العلمي من فلسفة النهضة، وخاصة القدرة على انتقاد الذات، والتي قال عنها "آيف لاكوست" إنها الوصفة التي جعلت المجتمع الفرنسي ينهض ويتقدم ويزدهر، إذ كان ينفق وقتاً طويلاً في نقد ذاته، بينما عجز العرب من خلال العلوم المنقولة والمستوردة، بشقيها الطبيعي والإنساني، عن إحداث نقلة نوعية كما فعل الغرب الذي استطاع تحقيق مستوى عالٍ من التقدم والقوة التقنية والعلمية، مكّنه من الهيمنة على غالبية أمم العالم المعاصر. ولعل النقطة الجوهرية هنا هي ما أشار إليه المفكر الألماني مراد هوفمان في كتابه "خواء الذات والأدمغة المستعمرة"، من أن نخب العالم الإسلامي عندما استقلت بلدانها عملت على تكريس استقلالها لكن داخل حدود الحضارة الغربية ذاتها، ولهذا فقد اكتملت حلقة التبعية مع ذلك "الاستقلال الداخلي" ذاته!