في الوقت الراهن ترتفع أسعار الغذاء، بسبب عدد من العوامل القصيرة والطويلة الأمد في وقت واحد. ومن بين تلك العوامل، على سبيل المثال لا الحصر، المناخ السيئ، وتفاقم ظاهرة الجفاف في كل من أميركا الشمالية والصين وألمانيا وفرنسا، ولجوء العديد من الدول في غرب أفريقيا إلى تخفيض إنتاجها من المحاصيل الغذائية خلال الاثنى عشر شهراً الماضية... وهو ما كان محتماً أن يؤدي في مجمله إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية. والظاهرة التي لا تقل عن ذلك خطورة هي التنامي المطرد في الطلب من جانب الطبقة الوسطى الحديثة الثراء في أجزاء مختلفة من العالم، مثل قارة آسيا، وأميركا الجنوبية، وأوروبا الشرقية، والشرق الأوسط، وروسيا. والثراء الطارئ لتلك الطبقات جعلها أكثر طلباً على الأطعمة الفاخرة، وعلى وجه الخصوص اللحم البقري والدواجن. لكن إنتاج اللحوم بأنواعها من خلال مشاريع مربحة يتطلب توفير العلف الذي يشمل الحبوب التي تمثل في الآن ذاته غذاءً أساسياً للمليارات من أبناء الطبقات الفقيرة في العالم التي لا تمتلك الإمكانيات المادية التي تمكنها من شراء اللحوم. وهكذا فعندما تتزامن زيادة الطلب على الحبوب مع نقص الكميات المنتجة منها بسبب الجفاف أو الآفات الزراعية أو أي سبب آخر، فإن أسعار المواد الغذائية ترتفع نتيجة لذلك. وبالنسبة للبلدان التي بات سكانها معتادين على الأغذية الرئيسية المدعومة، مثل الخبز، فإن أي زيادة حادة في أسعار هذه المواد، يمكن أن تترتب عليها تداعيات سياسية خطيرة. ولضمان المحافظة على القانون والنظام، والحيلولة دون وقوع "ثورات خبز"، فإن بعض الدول -مثل مصر وإيران على سبيل المثال- تجد نفسها تحت ضغط يدفعها للاستمرار في دعم الأغذية الرئيسية التي يعتمد عليها سكانها من الفقراء، مما يؤدي لزيادة كبيرة في العجز المزمن في ميزانياتها، وهو ما يؤدي من جانبه لخلق مشكلات بنيوية لاقتصاداتها. والطلب المتزايد على المياه لري المحاصيل الغذائية، والطلب المتزايد على هذه المحاصيل من أجل تغذية الماشية، يشكلان معاً سببين غاية في الأهمية من أسباب القلق السائد حالياً بشأن النقص في الإمدادات الغذائية. وفي الوقت الراهن، تحاول الدول المختلفة التكيف مع هذا الوضع، لكنها للأسف الشديد تفعل ذلك من خلال طرق يمكن أن تؤدي إلى نتائج عكسية في بعض الحالات، كما يمكن أن تؤدي أيضاً إلى صراعات مع الدول المجاورة في حالات أخرى. وهناك مثالان يستحقان الكثير من الاهتمام في هذا الصدد هما: مناطق الصين الشمالية التي تشمل العاصمة بكين والتي يزيد تعداد سكانها عن 22 مليون نسمة، والتي تتعرض حالياً لنقص حاد في المياه. وهذه الظاهرة تزايدت تدريجياً عبر السنين، وسوف تصل عما قريب لأبعاد غاية في الخطورة، ما لم يتم اتخاذ إجراءات جذرية لمعالجتها. ومن بين الخطط التي أعدتها السلطات الصينية، والتي تعرضت لانتقادات حادة وكانت موضوعاً لجدل محتدم، الخطة التي تقوم على جلب المياه من الجنوب إلى الشمال من خلال إنشاء قنوات ري لسحب المياه من نهر"يانجستي" وتوجيهها نحو الشمال. والآثار البيئية والتداعيات السياسية لتلك المشروعات، غير معروفة ولا يمكن التنبؤ بها، لكنها تمثل مشكلة عويصة للنظام الصيني المهموم في المقام الأول باستقرار سكانه، وضمان رضاهم، و تحسين مستويات معيشتهم. وهذه التحديات، شأنها في ذلك شأن كافة التحديات التي يواجهها نظام بكين، يتم حلها من خلال طرق قصيرة النظر، لا تراعي الاعتبارات المختلفة، ولا مصالح كافة الأطراف. فمثلا في الحالة المشار إليها آنفاً تم سحب المياه إلى مناطق الشمال رغم أن مناطق الجنوب التي كانت تعاني من الجفاف في العام الماضي كانت في حاجة ماسة لتلك المياه. والدول التي توجد بها حالياً طبقات متوسطة موسرة، وتستورد المواد الغذائية لإشباع طلبات هذه الطبقات، مثل الصين والهند والسعودية وكوريا الجنوبية، عمدت في السنوات الأخيرة لشراء مساحات شاسعة من الأراضي في قارة أفريقيا وعلى وجه الخصوص في السودان، وإثيوبيا، وكينيا، وموزمبيق... لاستغلالها في زراعة المحاصيل، وتوفير احتياجات سكانها من المواد الغذائية المختلفة. هذه المحاصيل تحتاج إلى كميات متزايدة من المياه، لكن المشكلة هي أن كميات المياه المطلوبة للدول الثلاث الأولى تأتي من مناطق أعالي النيل الذي يشهد ملف المياه فيه توتراً ملحوظاً منذ فترة من الوقت. فمصر على سبيل المثال تعتمد في حياتها ووجودها على نهر النيل، وأي انقطاع في تدفق المياه يمكن أن تترتب عليه نتائج رهيبة على الاقتصاد المصري، وعلى علاقات مصر مع جاراتها الجنوبيات، وعلى وجه الخصوص السودان الذي وقعت معه "اتفاقية مياه النيل" التي تخصص لمصر 75 في المئة من إجمالي مياه النهر. ومما يشار إليه في هذا الخصوص أن مصر قد أوضحت بجلاء لا لبس فيه، وخلال عدد من المناسبات، أن القطع المتعمد لتدفق مياه النيل سوف يعتبر بمثابة "سبب كافٍ للحرب"؛ لأن وجود مصر ذاته يعتمد على التدفق المنتظم لمياه النيل من دول المنبع. وفي الوقت الذي يتزايد فيه عدد سكان العالم، وترغب أعداد متزايدة من الطبقات التي دخلت إلى عالم الثراء المادي في التمتع بامتيازات ذلك الثراء، فإنه يمكننا في هذه الحالة توقع تزايد الصراعات حول الموارد الأساسية من الماء والغذاء. ومن ضمن التعقيدات الناتجة عن ذلك، التأثير طويل الأمد لارتفاع مستويات مياه البحر، وزيادة مساحات التصحر في المناطق القاحلة في الصين وأفريقيا. وهذه التغييرات البيئية سوف تؤدي إلى تآكل مساحات الأراضي الصالحة للزراعة، وسوف تشكل المزيد من الضغوط التي تدفع لتفاقم ظاهرة الهجرة الداخلية، من الريف للمدينة، والهجرة غير الشرعية للخارج. والهجرة الاقتصادية، ما لم تتم مراقبتها بعناية، والإشراف عليها قانونياً، يمكن أن تتحول إلى موضوع سياسي ملتهب، سواء داخل كل دولة، أو بين الدول وبعضها بعضاً. وهذه العوامل في مجملها، تدعو الدول المختلفة للسعي من أجل التوصل لاتفاقيات دولية فعالة من أجل التعامل مع تلك الأزمات. وإذا لم يتم ذلك، فإن الأمر المتوقع هو أن تصبح الحرب على الموارد جزءاً أساسياً ومتزايداً باستمرار من الأجندة الدولية الجديدة.