تلقت أميركا مؤخراً مؤشرين متناقضين حول أهمية إصلاح سياسات الهجرة في البلد، فمن جهة وقف أوباما بالقرب من الحدود مع المكسيك ببلدة "إل باسو" في العاشر من مايو الماضي، داعياً إلى إصلاح قوانين الهجرة في الولايات المتحدة، لكن من جهة أخرى أظهر استطلاع للرأي في الأسبوع التالي، قام به مركز "جالوب"، بأن نسبة قليلة فقط من الأميركيين لا تتجاوز 4 في المئة، تعتبر الهجرة إحدى أكبر المشكلات في أميركا مقارنة بنسبة 11 في المئة قبل عام. فما الذي جرى لمخاوفنا السابقة من الهجرة وإشكالاتها؟ من الواضح أن التدهور الاقتصادي الذي بدأ أواخر عام 2007 جعلنا نهتم بأمور أخرى، بالإضافة إلى التأثير المتواصل للركود الطويل والتعافي المتباطئ للاقتصاد في تغيير مجمل تصوراتنا حول المشاكل المرتبطة بالهجرة، وهي الخلاصة نفسها التي انتهى إليها تقرير معهد "منهاتن" المنشور مؤخراً. ومع أني كتبت عن الهجرة والاندماج لفترة طويلة، فإن المتغيرات الحالية بدأت تلقي بظلالها على الموضوع وتفرض بعض المراجعات، إذ من الواضح أن الأزمة الاقتصادية أوقفت تقريباً الهجرة ومعها تقلصت الفوارق بين المهاجرين والسكان الأصليين، تلك الفوارق التي عادة ما كانت تثير قلقاً متزايداً في الأوقات العادية. ولأن الأزمة أثرت على المهاجرين أكثر من غيرهم فقد دفعت البعض منهم إلى حزم حقائبهم والعودة من حيث أتوا، فيما قرر من كانوا يفكرون في الهجرة إلى الولايات المتحدة البقاء في أماكنهم، كما أن المهاجرين الأكثر استعداداً للمغادرة هم الذين وصلوا حديثاً إلى أميركا ولم تتح لهم فرصة الاندماج في المجتمع بما يكفي، سواء بسبب اللغة أو الوضعية الاقتصادية الصعبة. وعندما يقرر المهاجرون العودة إلى ديارهم ويمتنع من كان يفكر في الهجرة عن اتخاذ الخطوة، فإن الاختلاف بين المهاجرين والأصليين يضيق إلى أقصى الحدود، وهو ما يفسر تراجع الاهتمام الجماعي بسياسة الهجرة. لكن هل هذا التراجع في الاهتمام خطأ وقصر نظر من قبلنا؟ وهل سيعود انشغالنا بالهجرة ما أن يستعيد الاقتصاد عافيته؟ الحقيقة أن تقرير منهاتن يضيء بعض النقاط في هذا الشأن، وذلك بإجراء مقارنة بين تجارب المهاجرين في أميركا ونظيرتها في عشر بلدان أخرى متقدمة. والنتيجة أنه رغم نزوع الكثير منا إلى الاعتقاد بأن أداء أميركا هو أقل في كثير من المجالات مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى، فقد تبين هذه المرة أن أداء أميركا فيما يتعلق بالهجرة هو من بين الأفضل في العالم. وتركز الدراسة على مجموعة من المؤشرات التي تثبت أفضلية تجارب المهاجرين في أميركا؛ مثل معدل امتلاك المنازل في أوساط المهاجرين الذي تتفوق فيه أميركا على إيطاليا بعشرين في المئة، ومعدل الشغل الذي يتجاوز نظيره في هولندا ممثلا بحوالي 13 في المئة، هذا بالإضافة إلى أن المهاجرين إلى أميركا أوفر حظاً في الحصول على الجنسية من نظرائهم في العديد من البلدان الأوروبية. لكن ذلك لا يخفي بعض الاختلالات، إذ بينما حقق جزء مهم من المهاجرين المنحدرين من آسيا نجاحاً واضحاً في أميركا وتحسنت أوضاعهم، ظل المهاجرون من بلدان أميركا اللاتينية في أوضاع صعبة. غير أنه حتى في ظل هذه الاختلالات يظل التفوق الأميركي جلياً في مجال الهجرة لاسيما إذا قارنا بين وضع المهاجرين من أميركا الجنوبية في الولايات المتحدة ووضع المهاجرين من شمال أفريقيا والشرق الأوسط في أوروبا، وللتدليل على الصعوبات التي يواجهها المهاجرون المسلمون في أوروبا يمكن الإشارة إلى القرار السويسري في عام 2009 بحظر بناء المآذن وإعلان ميركل وساركوزي وكاميرون عن فشل سياسيات التعددية الثقافية في بلدانهم، لذا تكشف المقارنة أن حال المسلمين في أوروبا هو أسوأ من مثيله بالنسبة للمهاجرين اللاتينيين في أميركا. والأكثر من ذلك وبالنظر إلى العوامل الديمغرافية في البلدان النامية، من المتوقع تزايد الفوارق في تجارب المهاجرين بين ضفتي الأطلسي، فقد تراجعت نسبة الخصوبة في المكسيك التي كانت قبل جيل ضعف نسبتها في الولايات المتحدة لتتساوى اليوم مع الجانب الآخر من الحدود. ويعلمنا التاريخ أنه كلما تراجعت نسبة الولادات انحسرت الهجرة إلى الخارج. وخلافاً لأميركا الجنوبية، ستبقى نسبة الخصوبة في أفريقيا التي تمثل المصدر الأول للهجرة نحو أوروبا بحكم القرب الجغرافي، مرتفعة بسبب تأخر النمو الاقتصادي في القارة السمراء لتستمر موجة الهجرة إلى أوروبا دون توقف. لكن، وبصرف النظر عن العوامل الديمغرافية والجغرافية التي تجعل أميركا في وضع مريح نسبياً إزاء الهجرة، هناك أيضاً العوامل الثقافية والتاريخية التي تلعب دوراً كبيراً في صياغة تصوراتنا عن الهجرة. ففيما يرتبط الانتماء القومي في أوروبا بالعرقية والأصول الإثنية، يبقى الأمر في أميركا منفصلاً، إذ يمكن أن تكون أميركيا دون أن تنتمي إلى العرق الأبيض. هذا التعدد في الهوية الأميركية يهيئ المجتمع لاستيعاب المهاجرين أكثر من المجتمعات الأوروبية. لكن وفيما تتفوق أميركا على معظم الدول الأوروبية في سياسات الهجرة، يبقى بلد واحد أفضل أداءً من أميركا هو كندا التي تمكنت بسبب بعدها النسبي عن العالم النامي وخياراتها السياسية الناجحة من تسجيل نتيجة تعتبر هي الأفضل عالمياً في إدماج المهاجرين داخل المجتمع، ويمكن الإشارة هنا إلى عاملين يفسران نجاح تجربة الهجرة في كندا: أولا تركيزها على المهارات والتعليم في منح التأشيرات وقبول المهاجرين بدلاً من تخصيص حصص محددة للبلدان، وثانياً سماحها بالجنسية المزدوجة والحصول عليها بعد ثلاث سنوات فقط من الإقامة. جاكوب فيجدور باحث في "معهد منهاتن" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"