في كل مرة تعقد فيها الدول الثماني الكبرى مؤتمرها السنوي، تُعقد قمة خاصة لممثلي الأديان والعقائد المتعددة في ذات الدولة وفي الوقت ذاته أيضاً. إلا أن الإجراءات الأمنية التي تتخذها الدولة المضيفة توجب أن تعقد قمة ممثلي الأديان في غير المدينة من الدولة ذاتها التي تعقد فيها قمة الدول الكبرى. وهكذا قبل 48 ساعة من انعقاد "قمة دوفيل" في شمال فرنسا، عقدت القمة الدينية في مدينة بوردو في جنوبها. وقد أصبح تقليداً أن تعدّ قمة ممثلي الأديان مذكرة ترفعها إلى القمة السياسية. وأصبح تقليداً أيضاً أن تتسلم هذه المذكرة الأمانة العامة للقمة السياسية، أو إلى رئيس حكومة الدولة المضيفة. أما كيف تؤثر مذكرة رجال الدين على قرارات رجال السياسة، فذلك موضوع آخر. لقد عقدت الدول الكبرى سبع قمم حتى الآن. عقدت القمة الأولى في بريطانيا في عام 2005، تلتها قمة في روسيا 2006، وفي ألمانيا 2007، واليابان 2008، وإيطاليا 2009، وكندا 2010. وبعد قمة فرنسا 2011 ستعقد القمة لقاءها في العام المقبل 2012 في الولايات المتحدة. ومع كل قمة سياسية كانت مذكرة رجال الدين تضاف إلى جدول الأعمال. ولكن لم يلحظ أي تأثير مباشر لها على القرارات السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية الدولية. وليس في هذا الأمر ما يثير الاستغراب. فالمنطلقات الدينية للقضايا العالمية تختلف عن المنطلقات السياسية. وكما تشير المذكرات السابقة، بما فيها المذكرة الأخيرة التي صدرت عن لقاء "بوردو"، فإن رجال الدين يركزون على الأبعاد الإنسانية المشتركة وعلى قيم الحياة وكرامة الإنسان كمدخل لمعالجة قضايا عالمية مثل الاحتباس الحراري، والمهاجرين والتنمية والتعليم. أما السياسيون فهم يركزون على المصالح الخاصة بدولهم، وتأمين الأسواق لمنتوجاتهم والطاقة لمصانعهم، كما يركزون على تطوير الآلة العسكرية والإنفاق على التسلح وبسط النفوذ فيما وراء الحدود. وفوق ذلك فإن الخلفية الفكرية للقرارات السياسية تحمّل سوء تطبيق الدين مسؤولية الكثير من المتاعب والأزمات العالمية المعاصرة وفي مقدمتها بعض الصراعات الإقليمية والإرهاب والاضطرابات التي تعصف ببعض الدول؛ كما تحمّل بعض الثقافات الدينية مسؤولية الاضطرابات الاجتماعية وحتى التخلف الاقتصادي. أما الخلفية الفكرية لقرارات رجال الدين فإنها تحمّل السياسات المتجردة من المشاعر الإنسانية الجامعة ومن الروحانية المترفعة عن الجشع والاحتكار، مسؤولية التردي في الأزمات الخانقة التي تعاني منها المجتمعات في الشرق وفي الغرب على حد سواء. ومن خلال مشاركاتي في العديد من القمم الدينية، كان واضحاً جدّاً أن هذه القمم تدرك أنها عاجزة -حتى الآن على الأقل- عن التأثير الفعلي في عملية اتخاذ القرارات في القمم السياسية التي يعقدها قادة الدول الثماني. إلا أنها تدرك في الوقت ذاته أن قادة الدول الثماني يحتاجون إلى تعاون القيادات الدينية في العالم لمعالجة التحديات التي تواجه الإنسانية كلها في مختلف الميادين. ومع ذلك، فإنه نادراً ما يولي الإعلام العالمي المذكرات الدينية الدولية اهتماماً، فالحادث العابر الذي تعرضت له مثلاً سيارة أوباما في دبلن بإيرلندا، استقطب اهتماماً عالميّاً واسع النطاق في الإعلام المرئي والمكتوب على حد سواء. إلا أن وقائع مؤتمر "بوردو" لم تجد سوى مساحة ضيقة جدّاً في هذا الإعلام. لقد ركزت مذكرة القمة الدينية هذا العام على ثلاثة محاور. المحور الأول هو تداعيات الكارثة التي حلت باليابان من جراء الهزة الأرضية، والتسونامي والتلوث النووي، والدروس التي يجب استخلاصها من تلك الكارثة على مستوى الإنسانية كلها. وتركز المحور الثاني حول النتائج المترتبة عن الاستمرار في إهمال إفريقيا وتهميشها. أما المحور الثالث الذي احتل حيزاً واسعاً في مناقشات القمة، فتركز حول التحولات والتحركات الشعبية في العالم العربي وما تحمله من معانٍ، وما قد تسفر عنه من نتائج. فالكارثة اليابانية بيّنت كيف أن العالم كله يبدو في مركب واحد ينجو كله أو يغرق كله. وإهمال إفريقيا يلقي الضوء على الثمن المرتفع الذي يدفعه العالم كله على صعيد الأمن والهجرة والفقر والمرض. أما الظاهرة الصحية فتمثلت في شعارات الحرية والكرامة الإنسانية التي رفعتها التحركات والتحولات العربية. إلا أن رياح التغيير هذه رسمت في الوقت ذاته علامات استفهام حول ما إذا كان سقوط الأنظمة الأوتوقراطية والاستبدادية سيفتح الطريق أمام حركات التطرف الديني الإلغائية للآخر المختلف دينيّاً أو عقائديّاً للوصول إلى السلطة. ولذلك جرى التأكيد على وجوب احترام الحريات العامة بما فيها الحريات الدينية. ودعت القمة الدينية، القمة السياسية إلى الاستثمار في ثقافة السلام ورفع نسبة مساعدات الدول الغنية الكبرى، التي لا تتجاوز حتى الآن 0.7 في المئة من دخلها القومي إلى الدول النامية بحيث لا تقل عن 2 في المئة من هذا الدخل. كما دعت الدول الكبرى إلى احترام القيم الدينية والإنسانية في برامجها السياسية وفي مقارباتها للقضايا العالمية من أجل قيام علاقات أفضل بين الدول ومن أجل خير المجتمعات البشرية المختلفة. وجنباً إلى جنب مع هذه الدعوة، قامت على هامش قمة الدول الثماني الكبرى "حركة رفض شبابية" اتسمت بالعنف وبالتظاهرات الاحتجاجية استنكاراً للمبادئ وللأهداف التي تقوم عليها القمة. ولذلك فإن انعقاد القمة يشكل عبئاً أمنيّاً على الدولة المضيفة ليس فقط من أجل تأمين سلامة رؤساء الدول المشاركين في القمة، ولكن أيضاً لمنع انتشار أعمال الاحتجاج وتحولها إلى أعمال شغب وتمرد، كما حدث في مرات عديدة سابقة. فالقمة السياسية للدول الثماني تجد نفسها في كل مرة أمام حملتين متعاكستين. حملة تطلقها القمة الدينية من خلال المذكرة التي تعدها على قاعدة المبادئ والقيم الأخلاقية والدينية، وحملة شبابية في الشوارع تتوسل الاحتجاج العنيف. وقد أثبتت التجربة أنه على رغم كل ما يتمتع به رجال الدين من صدقية وموضوعية، فإن الاهتمام يتجاوزهم وينصب على ردود الفعل العنيفة التي يعبر عنها الشباب المعترضون في الشوارع. ولكن في الحسابات الأخيرة، لا ينعكس هذا الاهتمام على قرارات قمة الثماني!