جاء إعلان وزارة البيئة والمياه في دولة الإمارات بداية هذا الأسبوع، بأن 10% من العينات المفحوصة مخبريّاً لإرساليات الخضراوات والفواكه المستوردة من خارج الدولة منذ بداية العام الجاري غير صالحة للاستخدام لاحتوائها على معدلات عالية من المبيدات، ليسلط الضوء مرة أخرى على قضية التأثيرات الصحية لتلوث الأغذية البشرية بالمبيدات الحشرية الزراعية، وليدفع بالجهات المسؤولة إلى إتلاف تلك الإرساليات بالتعاون مع بلديات الدولة. وقبل الاستطراد في التأثيرات الصحية للمبيدات الحشرية والزراعية، لابد من التوقف عند طبيعة هذه المبيدات، ودوافع استخدامها، ومدى انتشارها. وربما كانت نقطة البداية الأفضل في فهم أهمية المبيدات، هي حقيقة أن نقص الغذاء والمجاعات كانا دائماً يحصدان أرواح الملايين من البشر، ويقضيان على مجتمعات وحضارات بشرية بأكملها. فمن المتفق عليه بين المؤرخين أن الفترة الممتدة منذ بداية القرن الماضي هي الفترة الوحيدة في التاريخ التي أصبح فيها الغذاء متوفراً بشكل كافٍ لمعظم أفراد الجنس البشري، ولذا على رغم كل ما نسمع عنه من مجاعات في مناطق مختلفة من العالم، يتمتع الجيل الحالي بوفرة غذائية غير مسبوقة. ويمكن إرجاع الوفرة النسبية في كميات الغذاء والطعام خلال المئة عام الأخيرة إلى عدة أسباب أهمها تطور أساليب الري والميكنة الزراعية واستخدام الأسمدة الكيمياوية والمبيدات الزراعية، ومؤخراً استخدام أساليب علم الوراثة لتحسين إنتاجية المحاصيل وزيادة مقاومتها للأمراض. ومن ضمن كل هذه العوامل المختلفة لعبت المبيدات الزراعية دوراً أساسيّاً في قدرة الإنسان على توفير الغذاء الكافي لمجتمعه، عن طريق حماية زراعته ووقايتها من الحشرات وغيرها من الآفات الزراعية مثل الفطريات التي كانت في كثير من الأحوال تقضي تماماً على المحاصيل الزراعية تاركة العديد من المجتمعات البشرية تتضور جوعاً. والمبيدات الزراعية هي في الأساس عبارة عن سموم قاتلة، أي أنها ببساطة مركبات كيمياوية خطرة في حد ذاتها. وعلى رغم هذه الحقيقة البديهية ينتشر استخدام هذه المركبات على نطاق واسع، في ظل الاعتقاد السائد بأن التركيزات المستخدمة لقتل الآفات الزراعية هي تركيزات منخفضة، بقدر لا يجعلها تشكل خطراً على البشر. وإن كان الواقع أحياناً ما يكون عكس ذلك حيث أظهرت مثلًا نتائج الفحوص على إرساليات الخضراوات والفواكه التي قامت وزارة البيئة والمياه الإماراتية بإتلافها بالتعاون مع بلديات الدولة، مخالفتها للوائح هيئة دستور الأغذية الدولية التابعة لمنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية، بسبب زيادة معدلات متبقيات المبيدات عن النسب المسموح بها عالميّاً. ويشكل هذا الدستور (Codex Alimentarius) الذي بدأ العمل به عام 1961، المرجعية الدولية للمستهلكين ومنتجي الأغذية ومصنعيها، وأجهزة الرقابة المحلية والدولية. وظهر دستور الأغذية هذا نتيجة عملية تدريجية طويلة، حيث بدأت قوانين الأغذية تظهر منذ منتصف القرن التاسع عشر في مختلف دول العالم، ثم تبعها إنشاء نظم وأجهزة الرقابة على الأغذية. وكنتيجة لتزايد ظاهرة الغش الغذائي الكيميائي، من خلال استخدام مركبات كيميائية لإخفاء اللون أو الطبيعة الحقيقية للغذاء، بدأ العمل على ابتكار أدوات لكشف هذه الممارسات، والتفريق بين الأغذية الآمنة وغير الآمنة. وهنا جاء دور الدستور الغذائي الدولي الذي هو عبارة عن مجموعة من المواصفات الغذائية الدولية الموحدة التي أقرتها هيئة الدستور الغذائي. ويغطي هذا الدستور جميع الأغذية الرئيسية، مصنعة كانت أو شبه مصنعة أو طازجة، وعلاوة على ذلك يشمل الدستور الغذائي المواد التي تستخدم في تصنيع المنتجات الغذائية للحفاظ على صحة المستهلكين. ويعتبر تنظيم استخدام المبيدات الحشرية والزراعية، والحد الأقصى المسموح لبقاياها في المنتج النهائي من أهم الجوانب التي يسعى دستور الأغذية لتنظيمها، فعلى رغم الفوائد الجمة التي تجنى من استخدام المبيدات الزراعية، إلا أنها غالباً ما تكون سامة بالنسبة للإنسان، أو على الأقل ذات تأثيرات ضارة على صحته. وهذه الحقيقة دفعت الكثير من الدول لتحريم استخدام بعض أنواع المبيدات، أو تحديد حد أقصى للاستخدام يعرف بحد الأمان. حيث أظهرت الدراسات العلمية المتعاقبة، وجود ارتباط بين المبيدات الزراعية، وخصوصاً الكيمياوية منها، والإصابة بالعديد من الأمراض. ويعتبر الأطفال من أكثر الفئات العمرية تأثراً بالمبيدات الحشرية والزراعية، حيث تظهر الدراسات وجود علاقة بين بعض أنواع المبيدات الحشرية في دم الحبل السري أثناء الولادة، وبين زيادة احتمالات ولادة أطفال منخفضي الوزن أو منخفضي الحجم. ويعتقد بعض العلماء أن التعرض للمبيدات الزراعية أثناء وجود الجنين في الرحم، هو المتهم الأول في الزيادة الملحوظة في الاضطرابات السلوكية التي يعاني منها الأطفال حاليّاً في الدول الصناعية. ويعتقد أيضاً أن الأضرار الطفيفة التي تسببها المبيدات الزراعية لمخ الطفل في سنوات عمره الأولى، قد لا تظهر آثارها إلا في المراحل المتقدمة من العمر. وتمتد قائمة الاتهامات الموجهة ضد المبيدات الحشرية والزراعية لتشمل سرطان الثدي عند النساء، وسرطان الخصية والبروستاتا وانخفاض الخصوبة عند الرجال، وإضعاف جهاز المناعة، وغيرها. وهو ما يجعل تنظيم وتقنين هذه المواد الكيميائية المفيدة في الجانب الزراعي، وشديدة الخطورة في الجانب الصحي، إحدى أهم المهام التي يضطلع بها الدستور الدولي للأغذية.