لا يبدو أن قائمة المواد المسرطنة ستنتهي، ولن ينتهي معها قلق الإنسان على صحته، فقد أُضيفت إليها مؤخراً الهواتف المحمولة التي حسب ما أوردته الوكالة الدولية للأبحاث السرطانية التابعة لمنظمة الصحة العالمية ربما تكون لها علاقة بأمراض السرطان، وإن كانت لم تجزم بأنها تقود فعلا إلى السرطان، داعية مع ذلك إلى"ضرورة مراقبة أي صلة ممكنة بين الهواتف المحمولة والسرطان"، وبهذا الإعلان الطبي الذي يجعل في خانة الوارد والمحتمل إمكانية تسبب الهواتف المحمولة في السرطان يكون قد أضيف عنصر جديد إلى لائحة مسببات السرطان الطويلة والتي تضم القهوة، ومخلفات النجارة، وزيت الكاوكاو المستخدم في شامبوهات الشعر... إلخ. لكن وفيما عدا خطورة الهواتف المحمولة على الصحة واحتمال تسببها في السرطان، وهو أمر يتعين أولا أن يؤكده العلماء أو ينفوه، يبقى المؤكد علمياً على الأقل الإزعاج الذي يسببه الهاتف المحمول. فقد تحولت هذه الهواتف الحديثة التي تصاحبنا في حلنا وترحالنا إلى مصدر للتطفل على الحياة الخاصة لأفراد وعرضها بطريقة غير مرحب بها، فهل من الضروري مثلا أن نسمع حديثاً هاتفياً عن نتائج فحوص القولون على مائدة العشاء في أحد المطاعم؟ وقد يعتقد البعض أن مصدر الإزعاج في الهواتف المحمولة هو التحدث بصوت مرتفع في مكان عام وإشراك الآخرين في حديث لا يهمهم، لكن ردة فعلنا المستهجنة غالباً ما تكون مردها بيولوجياً، وهنا يمكن الاعتماد على علم الأعصاب والخلايا الدماغية لمعرفة سبب انزعاج البشر من الأمور اليومية الصغيرة التي تحدث بالقرب منهم. فالإنسان مبرمج لفرض نظام معين على الأمور، وإخضاعها لقوانين ثابتة يتعود عليها مع مرور الزمن، وهو ما يفسر استياءنا عندما تقع أمور غير متوقعة تُحدث خللاً في النظام تماماً مثلما يحدث مع الهواتف النقالة. وفي هذا الإطار تقول عالمة النفس "لورين إيمبرسون" بأن الطريقة التي يتعامل بها الدماغ مع الكلام تؤثر على ما نشعر به عندما نستمع إلى محادثة من طرف واحد، وقد اهتمت العالمة بالسبب الذي يدفع الناس إلى الاستياء والتعبير عن انزعاجهم عندما ينصتون دون قصد إلى شخص يتحدث في هاتفه النقال، حيث اعتمدت على تجربتها الخاصة عندما تأخذ القطار في مدينة فانكوفر الكندية إلى عملها، إذ رغم محاولاتها التركيز لقراءة مقالات مرتبطة بمجال تخصصها خلال الرحلة، فإنها غالباً ما تجد نفسها مشتتة الانتباه بسبب المحادثات الهاتفية التي يجريها المسافرون إلى جانبها. وتقول العالمة: "في البداية اعتقدت أن الانزعاج الذي أشعر به مرده إلى رغبتي في التلصص على ما يقوله الآخرون، لكني اكتشفت أني لا أريد سماع أحداً، بل أُرغمت على ذلك". وبعد دراستها للموضوع خلصت إلى أنه عندما نستمع إلى نصف محادثة كالتي تحدث عندما يتحدث شخص في الهاتف "يدخل الدماع في لعبة توقع لما سيقوله الشخص على الجانب الآخر من الخط، والقاعدة تقول إنه عندما تكون الأمور غير متوقعة فهي عادة ما تلفت انتباهنا وتشد تفكيرنا"، ولا أدل على ذلك من المحادثات العادية التي لا يكتفي فيها الدماغ بتشرب المعلومات التي تسمعها الأذن لتحليلها واستخلاص المعنى، بل ينتقل إلى توقع ما سيأتي بعد ذلك حتى تنجح العملية التواصلية. وقد أظهرت "إيمبرسون" كيف أن المحادثات غير المكتملة تشتت الذهن وتعرقل التركيز، وللتدليل على ذلك طلبت من أشخاص تحريك فأرة الكمبيوتر لوضع علامة على هدف متحرك في الشاشة، فلاحظت تراجع احتمال إصابة الهدف وتزايد الأخطاء بشكل كبير كلما بدأت محادثة غير مكتملة في الخلفية لما تمارسه هذه الأخيرة من صرف للانتباه. وتبقى الفرضية النهائية التي تسعى العالمة إلى إثباتها أن الدماغ البشري يبذل جهداً مضاعفاً لتوقع الحديث غير المنتهي في المكالمات الهاتفية، فنحن نركز الانتباه عليه وننسى ما نقوم به، ومع أن المكالمات الهاتفية قديمة ترجع إلى خطوط الهاتف الأرضي، إلا أنه وبفضل الهواتف النقالة أصبحت المكالمات غير المنتهية جزءاً من حياتنا اليومية، ومن ثم مصدراً متكررًا للإزعاج وتشتيت الانتباه. وقد قررت أنا وزميلتي دراسة مصادر الإزعاج بالاعتماد على مختلف المجالات العلمية التي يمكنها إفادتنا، وانتهينا إلى خلاصة مفادها أن مصادر الإزعاج تشترك في ثلاثة عناصر أساسية، أولها أنها خارج نطاق التوقع، أو على الأقل لا يمكن تجنبها، والثاني أنها غير مرحب بها وإن كانت ليست مصدراً للأذى، كما تختلف مصادر الإزعاج من شخص لآخر، إذ في الوقت الذي ينزعج فيه البعض من صوت جر الأظافر على سطح معدني، لا يطيق آخرون الأخطاء الإملائية مثلاً، فيما يشكل الأكل بصوت مرتفع قمة الإزعاج لطرف آخر، أما العنصر الثالث فهو المدة الزمنية غير المعروفة، بحيث لا يمكن معرفة متى سيتوقف الصوت المزعج، أو الشخص الذي يصدره. واللافت أنه مهما اختلفت مصادر الإزعاج ودرجة تفاعلنا معها وكراهيتنا لها، يبقى أن الجميع يحب الحديث عنها وكأنها تتيح لنا فرصة للتواصل في مجتمعنا والتنفيس عن ذواتنا. -------- جو بالكا صحفية متخصصة في الشؤون العلمية فلورا ليتشمان مقدمة برنامج علمي في الإذاعة الوطنية الأميركية -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"