أورد ويل ديورانت قصة توماسو كامبانيلا في مواجهة أفكار الكنيسة فقال: الخطيئة القاتلة التي وقع فيها كامبانيلا أنه لم يقدر العواقب جيداً، وهو يتعرض لقوة اسمها الكنيسة، بمخالبها متمثلة في محاكم التفتيش! لقد قال الرجل في حينه معلقاً على معتقدات الكنيسة: إن الكنيسة روجت لمثل هذه الخرافات كي تتحكم بالناس وتجعلهم خائفين. وبالطبع فإن جملة من هذا الحجم، في وجه خصم مسلح بكل الإمكانيات، بما فيها ادعاء أن الله يمر من خلاله على ألسنة الباباوات المعصومين، هي جملة أكبر من أن تمر مر الكرام. وهي المسألة التي كلفت التيولوجي السويسري "هانس كينج" خسارة مقعده في التدريس، بعد مرور 400 سنة على واقعة كامبانيلا. أما كامبانيلا فحدث له أفظع من ذلك؛ فقد ألقي عليه القبض بتهمة الهرطقة والإلحاد، وتم أخذه إلى أقبية الفاتيكان، حيث محاكم التفتيش، وذلك في عام 1593بالتحديد، ولم يطلق سراحه إلا بعد ست سنوات. وكانت جنوب إيطاليا خاضعة للحكم الإسباني يومها، ومعها جبروت الكثلكة، فأوحى إلى كامبانيلا عقله أن يقاوم الغزاة، وينشئ جمهورية مثالية، فأخطأ للمرة الثانية، وهكذا فبعد أن كان يواجه غولاً واحداً، أصبح في مواجهة غولين! تم إلقاء القبض على كامبانيلا من جديد، وحكم عليه بالسجن المؤبد، وتعرض للتعذيب بآلة جهنمية اسمها "لافيجليا". كان المتهم حينئذ، كما هو حال كامبانيلا، يخضع للتعليق بذراعيه، وهو في وضع القرفصاء، على بعد إنشات من كرسي تبرز منه مسامير حادة غليظة جاهزة لشق اللحم شقاً، فليس أمامه إلا أحد احتمالين: أن ينغرز في خازوق الأنصال، أو تنخلع أكتافه من فوق! وهنا أدرك كامبانيلا أن عليه إن أراد البقاء على قيد الحياة اعتماد استراتيجية جديدة، فبدأ يتظاهر بالهلوسة والجنون، فأخضعته الكنيسة لمزيد من التعذيب كي تتأكد أنه "مجنون حقاً"! وبقي أربع سنوات مصلوباً واقفاً إلى جدار، صمد خلالها لعذابات تحقيق الكنيسة، حتى اعتقدت في النهاية بأنه فاقد للعقل تماماً. بعدها بسنوات كتب كتابه الأول في مدح "الملكية الإسبانية"، معتبِراً أن ما فعلته من ذبح للناس وحرقٍ لهم على نار هادئة، ونهب لأميركا، كان عين العقل وقمة التقوى، فصدقت الكنيسة أنه فعلا ولد صالح للكثلكة! ثم ضرب كامبانيلا ضربته الأخيرة؛ فأخرج كتاباً مثيراً بعنوان "هزيمة الإلحاد" وعرضه على شكل سؤال وجواب، وكان يعرض حجج اللوثريين والمارقين بقوة ووضوح، ثم يأت برد الكنيسة على شكل ممل تقليدي عويص، فاحتارت الكنيسة في أمره، فهو يعرض آراءها مقابل الشبهات، ثم اقتنعت بأن الرجل كاثوليكياً صالحاً، وأنه فعل جهده في الدعوة لاعتناق المذهب الصحيح والذود عنه، وهكذا أطلقت سراحه بعد 23 سنة من حبسه الطويل، وتلقف الناس كتابه فلم يكن هزيمة للإلحاد، بل كان نبعاً الإلحاد، وهكذا أصبح أنجيلا في يد كل من ينافس ويعارض الكنيسة ويريد النيل منها، بسبب قوة الحجج المعروضة على لسان خصوم البابا والكنيسة. وذلك يجعلنا نفهم أن معركة الكنيسة مع العلماء فتحت الباب لكل ألوان الإلحاد، جملة وتفصيلا، وضد أي دين، وبذلك نشأت الحضارة الغربية الحالية، وهي ممزوجة بروح إلحادية صريحة؛ فأعلن "نيتشه" موت الرب، وأعلن "سبينوزا" أن الله والطبيعة أمر واحد، وأن الإيمان بالمعجزات "كفر"، وأعلن ماركس أن الدين أفيون الشعوب، وختمها ميشيل فوكو بموت الإنسان؛ فلم يبق أحد... وكل ذلك من تعصب الكنيسة، والتعصب موقف عقيم.