حين وصلت أديس أبابا، وفي الحركة بين الاتحاد الأفريقي ، وإحدى مؤسسات السلم والأمن الأفريقي، ورفقة بعض أساتذة الجامعة الإثيوبية، كان لابد أن نواجه قضايا ثلاث تشد الرأي العام الإثيوبي والأفريقي المحتشد حول كثير من الاجتماعات في هذه العاصمة الغنية الآن بالحركة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية أكثر من أي وقت مضى. أولى هذه القضايا بالطبع كانت موجة الثورات العربية، التي تعج بها عواصم المنطقة فيما يسمى بالشمال الأفريقي والشرق الأوسط، حيث قليلًا ما يُسمى هؤلاء المنطقة بالعالم العربي، وربما كانت هذه النقطة تحديداً هي موضع النظر في ندوة نظمت حول : "الثورات العربية في الشمال الأفريقي ". لقد كان تساؤلي مثل البعض من المشاركين في سبب هذا الاهتمام الأفريقي الكبير الآن، وهو ما لم نلاحظ مثله من قبل رغم ضخامة أحداث سابقة في المنطقة العربية عالية التأثير مثل حرب أكتوبر 1973، أو ثورات الخبز منذ عدة عقود ...الخ. كان واضحاً أن "الحدث الشمالي" هذه المرة أثار القاعدة الشعبية والثقافية في القارة، ولا يمثله بهذا المستوى إلا حدث ثورة 1952 نفسها، ليس في ذاتها ولكن في الأحداث الكبرى لتحققها مثل تأميم قناة السويس أو حرب1956 بما جعل "الحالة المصرية " تدخل قلب الحدث الأفريقي بقوة رشحتها لقيادة معارك الكونغو لإنقاذ لومومبا، ومعركة بناء الوحدة الأفريقية ". الأمر إذن يرتبط بحالات النهوض التي تتطلع له جماهير القارة، والذي كثيراً ما يدور حول "التحرر " و "الحرية "، مثلما اشتعلت شعوب أفريقيا فترة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي بقضية الديمقراطية وثورة الفقراء من أجل "نظام سياسي جديد"، أسمته مؤتمر "السيادة الشعبية"، والذي لم يكتب له الدوام كثيراً! وكانت السياسة الاقتصادية نفسها، والتي فرضت على هذه الشعوب هي سبب الانتكاسة لطريق التحرر السياسي من نظم عسكرية أو استبدادية. هنا بدت الثورات العربية، وكأنها موجة جديدة للأمل أمام الشعوب الأفريقية رغم ملاحظتي أن هذه الثورات لم تنتبه بعد في مصر وتونس إلى ضرورة بلورة هويتها لتضع العروبة أو الأفريقية ضمن الإطار المناسب لهذه العلاقات، وحول ذلك تحديداً كانت معظم تساؤلات الندوة حول دروس وهويات الثورات العربية ومدى علاقتها بشعوب القارة. وفي اعتقادي أنه لن يكتمل معنى الثورة إلا إذا شمل إطارها طبيعة هويتها الثقافية والإقليمية والأممية على السواء. القضية الثانية : تتعلق بموقف الاتحاد الأفريقي من أحداث ليبيا، ورغم أني قادم من القاهرة محملاً بآلام الموقف العربي الذي يبدو عاجزاً عن حل تعقيدات الحالة الليبية مستسلماً لخطط حلف الأطلنطي تجاه هذا البلد، دون أن نعرف مدى فاعليتها فيه، فإني وجدت الموقف الأفريقي نفسه، أشد ضغطاً لمعرفة مدى فاعلية خريطة الطريق التي أعلنها الاتحاد الأفريقي، ومن أجلها زار وفد رئاسي طرابلس أكثر من مرة دون جدوى! ويتساءل الأفارقة في أديس أبابا عن سبب عدم اشتراك الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي في موقف يحول دون قيام حلف الأطلنطي وحده بالعمل العسكري في ليبيا بطريقة لم تؤدي إلى مساعدة أي من أطراف الاقتتال؟ لماذا لم تنجح كل هذه القوى العسكرية إلا في أعمال التدمير دون تحقيق تقدم سياسي يذكر حتى أوائل يونيو 2011. وبعد حوالى ثلاثة شهور من الصراع! ولماذا تبدو الجامعة العربية سلبية، وهي التي أعطت المظلة للناتو بعد قرار مجلس الأمن الذي ذهبت إليه الجامعة بنفسها؟، ثم لماذا لا يبدو الموقف الأفريقي نفسه واضحاً، أوحتى رادعاً للقذافي، خاصة وأن الدول الكبرى في القارة غير مرتاحة لموقفه، ولا لنتائج الحدث على سمعة الأفريقيين في ليبيا الذين يتزايد وصفهم بالمرتزقة؟ وهل ما زال لحجم مساهمة ليبيا في ميزانية الاتحاد ، أو في اقتصاديات بعض الدول الأفريقية أثر قد يؤدي إلى انحيازات جديدة لصالح الزعيم الليبي، مثلما انحازوا له من قبل بتحدي المقاطعة له بعد حادث "لوكيربي"؟ وهنا ينتقل بعض المثقفين إلى القول إن "مشاكل العرب" دائماً هي التي تجر الساحة الأفريقية إلى صراعات لا تنتهي مثل قضية "الصحراء " أو قضية "جنوب السودان"! القضية الثالثة: هي قضية الموقف الإثيوبي من مياه النيل: وهي لا تقل خطورة عن القضايا السابقة. وقد بدأت أديس أبابا منذ وصولي في حالة احتفالية ملفتة بذكرى مرور عشرين عاماً على انتصار ثورة التحرير من النظام العسكري الشمولي السابق بقيادة منجستو. وحيث يحتاج الرئيس المنتصر "ميلس زيناوي" لهذه الذكرى بعد مروره بانتخابات صعبة تناوشه المعارضة منذ عامين بسببها، فإنه أعلن هذه المناسبة الاحتفالية "عيداً للنهضة "، ومن هنا كان مشروع سد الألفية ، أو "السد الحدودي" الممول من دوائر عالمية ، إشارة إلى جاذبية إثيوبيا للاستثمار ، ودخول إثيوبيا –في عهده- عصراً ذهبياً للتنمية والرخاء الاقتصاد. وطبيعي أن يلتفت الكثيرون، متسائلين عن أثر المشروع على مصر وقضية المياه الحساسة التي تعيشها الدوائر المصرية الآن، وهل صحيح أن يبلغ التوتر مداه، وتواجه منطقة "حوض النيل" حفرة جديدة من الصراع بعد- أومع- التوتر الشديد الذي تحدثه قضية " جنوب السودان"؟ ولقد فوجئت بالحجج الإثيوبية تُلقى بقوة أمام الرأي العام الأفريقي، حول " الاتفاق الإطاري لتقسيم المياه"، وتبدو فيه مصر متمسكة أمام "أشقائها" الأفارقة في حوض النيل بـ"الحقوق التاريخية "، أو ضرورة "استئذانها " عند إقامة أي"مشروع تنموي" على منابع النيل. ورغم الحجج التقليدية لمصر حول توفر مصادر المياه عند بلد مثل إثيوبيا، أو حيوية نصيب مصر بالنسبة لحياة الملايين، فإن الأغلبية الأفريقية تروج بقوة لضرورة جعل " التفاوض" و"التفاهم" هو الأساس. لقد أثر غياب مصر طويلًا على معالجة هذه القضية في عصر النظام السابق، وتبع ذلك انشغال "الثورة " بالقضايا الداخلية الملحة قبل غيرها، ومن ثم ضعفت قوة المنطق المصري أمام الضغط الإثيوبي، المسلح الآن بعولمة المشروع، وأبعاده الاحتفالية، بأكثر من قيمته التنموية الفعلية، مما يرشح المنطقة للتوترات التقليدية وليس للحلول الدبلوماسية في وقت قريب.