يعد كتاب "عن الديمقراطية في أميركا" للكاتب ألكسي دو توكفيل الذي كتبه بعد رحلته إلى أميركا في أبريل 1831 ومارس 1832 عندما كان وزيراً لخارجية فرنسا، من أدق الكتب وصفاً للديمقراطية التي تسود المؤسسات الأميركية، ونشأتها وكيفية عملها والعوامل الداخلية والخارجية التي تقويها. وقد نظر إليها من زاوية السياسي الكبير وعالم الاجتماع المحنك، ولم يكتف بترداد ما هو معروف ومألوف في زمانه بل جمع همَّ التعرف عن كثب على أحوال أميركا السياسية في امتدادها الجغرافي والزّماني وكيف أن الديمقراطية الأميركية تعمل على تثبيت رفاهية الإنسان وتطور المجتمع، محاولًا الإجابة على سؤال وجيه: لماذا المجتمع الأميركي ديمقراطي؟ في البداية، يعطي توكفيل مفهوماً محدداً للديمقراطية مبني على المساواة، بمعنى قبول حق المشاركة الحرة للأفراد المتساوين سواء في النشاط الاقتصادي والتمتع بثمراته، أو في الحياة الاجتماعية، أو المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات الجماعية الملزمة وتولي المناصب والمسؤوليات فضلًا عن المساواة أمام القانون. فالحرية عند توكفيل لا يمكن أن تتأسس على اللامساواة، بل يجب أن تقوم على الواقع الديمقراطي لمساواة الشروط ويحافظ عليها بمؤسسات يقول توكفيل إنه وجد نموذجها في أميركا، وهي تنمي النضال السياسي السلمي لاستخلاص كل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وإدارة أوجه الاختلاف ديمقراطيّاً، انطلاقا من الحماية القانونية والفعالية السياسية. كان توكفيل قارئاً مميزاً للديمقراطية الأميركية وكيفية اشتغالها؛ وما اكتفى بالتوصيف هدفاً لذاته ولا بالتأريخ السردي مجالاً لعقله المتفحص؛ بل سبر أغوارها واكتشف من خلال ذلك النواة المحركة فوجدها في منظمات المجتمع المدني التي تسمح بالفبركة والتأثير في مضمون القرارات الجماعية الملزمة للجميع والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل وحتى الدينية. ونجده يقول في هذا الصدد: "الأميركيون من كل الأعمار وفي جميع الظروف ومع اختلاف الذهنيات نجدهم متحدين، لا يتوفرون فقط على جمعيات تجارية أو صناعية يشارك فيها الجميع ولكنّ لهم آلافاً أخرى دينية، وفكرية، عامة وخاصة، كبيرة وصغيرة، يتّحد فيها الأميركيون لتنظيم الحفلات، والملتقيات وإصلاح المراعي، وبناء الكنائس، ونشر الكتب، وإرسال المبشرين؛ ويبني الأميركيون بهذه الطرق المستشفيات والسجون والمدارس؛ عندما ترى على رأس مشروع كبير في فرنسا أو إنجلترا إقطاعيّاً أو أرستقراطيّاً، تجد على رأس ذلك في أميركا جمعية من منظمات المجتمع المدني". ويختم توكفيل تحليله القيم الصالح اليوم لكل المجتمعات العربية: "إن العامل الرئيسي الذي يسمح بإيقاف عجرفة الأحزاب السياسية وسلطوية القائد هو الجمعيات؛ في المجتمعات المتقدمة، تقوم الجمعيات بإيقاف تجاوزات السلطة؛ وفي الدول التي لا توجد فيها تلكم الجمعيات وحين يكون الأفراد عاجزين عن إنشاء شيء يشبهها، لا أرى هناك سدّاً حصيناً يمكن أن يمنع الديكتاتورية، وشعب بأكمله يمكن أن يُباد إما من مجموعة من الأفراد الضالين أو رجل متسلط واحد". في الفلسفة السياسية هناك منظوران لتطور المجتمع المدني: الأول تطور انطلاقاً من فلسفة هيغل الذي يضع منظمات المجتمع المدني في مكان فوق المجال العائلي وتحت مجال الدولة بمعنى المجال السياسي؛ وهناك المنظور الثاني الذي نجد جذوره عند موتسكيو ثم توكفيل يشرك المجتمع المدني مع مفهوم السلطة المضادة التي يباشرها أفراد خارج الدولة؛ وهذا يعني عموماً أن المجتمع المدني: - يجب أن يكون منفصلًا عن السياسة خلافاً للأحزاب السياسية التي تسعى إلى الوصول إلى السلطة. - يجب أن يعمل خارج نطاق الدولة، ولكن في الحقيقة، الدولة والمجتمع المدني يتداخلان في العديد من المرتكزات؛ وخاصة أن جل الأنشطة تدخل في إطار تنظيم ومساعدة الدولة ولكن يبقى المجتمع المدني "جسماً وسائطيّاً" بين الفرد والدولة. أنها تعمل من أجل أهداف معينة و قضايا محددة. لقد تحدثنا كثيراً في صفحات هذه الجريدة عن المد الديمقراطي والتحول الديمقراطي، ودور الأحزاب في هذا النسق، وقلنا إن النظم السياسية تكون بتراء عندما لا تكون فيها أحزاب قوية، وتزداد هذه الصفة سوءاً إذا لم يلبس الحزب لباس الديمقراطية الداخلية ومن القاعدة إلى القمة، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن منظمات المجتمع المدني بمختلف أنواعها انطلاقاً من تلك التي تقدم الخدمات الاجتماعية وتنفيذ البرامج والمخططات التنموية كمكمل أو مالئ للفراغ الحكومي، وصولاً إلى تلك التي تعمل في مجال المرافعة عن حقوق الإنسان والنهوض بعبء التعبير عن هموم ومشاكل الناس. ولقد تفطنت بعض "الجمهلوكيات" العربية إلى دور هذه الجمعيات منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، فأنشأت عن قصد جمعياتها الخاصة بدافع من وزارات الداخلية ووزارات التضامن الاجتماعي، تكون لها عوناً في الانتخابات المحلية والتشريعية وتقوم بحشد أصوات الناس وملء الملاعب بالناس لتمرير البرامج والرسائل الانتخابية على شاكلة الأحزاب الإدارية التي أنشأتها لتواجه أحزاب المعارضة، وتضع فيها كل الأتباع والمريدين. كما أن بعض الدول التي كانت فيها السلطوية شديدة حيث أتت لعقود على الأخضر واليابس كالعراق مثلاً، لم تجد عندما هبت نسمات الديمقراطية الفتية، المجتمع المدني المناسب ليصاحب هذه المرحلة الانتقالية الصعبة؛ فالمجتمع المدني يجب أن ينشأ من القاعدة وعلى أسس ديمقراطية لتلبية رغبة مجتمعية معينة على شاكلة الجمعيات التي وصفها ببراعة توكفيل في الولايات المتحدة الأميركية منذ ما يزيد على قرن ونصف، من حيث كونها بعيدة عن المصالح المفروضة أو الغرائز العمياء؛ ولقد صدق توكفيل عندما استنتج في كتابه انطلاقاً من التجربة الأميركية أن العالم المستجد بكليته يتطلب عملاً سياسيّاً جديداً، ويمكن أن نقول قياساً عليه إن عالمنا العربي اليوم يتطلب في الوقت نفسه عملاً سياسيّاً ومجتمعيّاً جديداً؛ فليس "التويتر" و"الفيسبوك" (وهي أوهام الثورات) هو الذي سيعيد التنمية والاستقرار إلى الدول التي عرفت تلك الثورات، وإنما عمل المجتمع المدني والأحزاب السياسية في الميدان.