تمر الذكرى الرابعة والأربعون لهزيمة يونيو 1967 في هذه الأيام في سياق مختلف عن كل الأعوام السابقة. خلفت الهزيمة شعوراً هائلاً بالانكسار والإحباط والمرارة لدى الجيل الذي عاصرها، وبصفة خاصة لأن وطأتها لم تكن لتتناسب على الإطلاق مع ميزان القوى المفترض بين إسرائيل والدول العربية التي كانت ضحية لعدوانها. ولكن هذه المشاعر سرعان ما بدأت تتبدد مع إعادة بناء القوات المسلحة على النحو الذي تفادى الأخطاء التي أفضت إلى الهزيمة، وأثمرت هذه الجهود صموداً عسكريّاً عربيّاً، وقدرة على استعادة زمام المبادأة بلغت ذروتها بحرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، ثم حرب أكتوبر على الجبهتين المصرية والسورية في أول تنسيق عسكري عربي حقيقي ضد إسرائيل. ولكن الأمور عادت إلى ما كانت عليه منذ بدأت عملية توظيف نتائج هذا المجهود الحربي المتميز في خدمة مشروع التسوية مع إسرائيل، الأمر الذي أحدث انقساماً كاملاً بين الدول العربية ومصر دام عقداً من الزمان تقريباً دون أن يكون هناك بديل عربي ناجح لمشروع التسوية الذي كان الرئيس آنذاك يحلم بإنجازه حتى لا يُتهم بأنه أجرى صلحاً منفرداً مع إسرائيل. وحتى عندما عادت العلاقات المصرية- العربية تباعاً ابتداءً من قرار قمة عمان 1987 الذي سمح للدول العربية فرادى بأن تعيد علاقاتها الدبلوماسية مع مصر بعد أن كان الإصرار على أن تعود بقرار جماعي، وقمة الدار البيضاء 1989 التي عادت مصر من خلالها للجامعة العربية واستعادت مقارها على الأرض المصرية، لم يؤد هذا إلى نقلة نوعية في أداء النظام العربي. بل على العكس فإن ذلك ساعد على انتشار الاعتقاد بين الدول العربية بصحة نهج التسوية مع إسرائيل، خاصة وقد وافق العرب منذ سبتمبر 1982 في قمة فاس على صيغة كانت بدورها مشروعاً للتسوية، وإن يكن أفضل من مشروع كامب ديفيد. وهكذا عادت المرارة إلى حلوق كل العرب المؤمنين بضرورة استعادة الحقوق الفلسطينية بالكامل. قدمت المقاومة الفلسطينية ومن بعدها اللبنانية مصدراً جديداً للأمل، وحقق كل منهما إنجازات لافتة، غير أن إسرائيل استطاعت أن تتعامل بذكاء مع المقاومة الفلسطينية من خلال اتفاقية أوسلو 1993 بعد أن فشلت في قمعها عسكريّاً. وكانت الاتفاقية دون شك نقلة نوعية في تاريخ الشعب الفلسطيني الذي أجبر إسرائيل من خلالها على الاعتراف بوجوده وبتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية له بعد أن كانت ترى أن فلسطين أرض بلا شعب، لكن الاتفاقية دون شك عانت من عيوب هائلة كان على رأسها "تحييد" المقاومة الفلسطينية في الصراع مع إسرائيل عن طريق فكرة "السلطة الوطنية" في ظل الاحتلال، فمع هذه الفكرة تحول مناضلو "فتح" إلى أصحاب مناصب، وإلى شرطة محلية تحفظ النظام في الأراضي المحتلة ولا توجه بنادقها لإسرائيل التي تنكرت لاحقاً كعادتها للاتفاقية، وبالذات مع مجيء نتنياهو للحكم في 1996، ولم يبق للفلسطينيين سوى فكرة "السلطة الوطنية". أما "حزب الله" فقد تكفل تزايد انغماسه في السياسة الداخلية اللبنانية بقصر دوره على ردع أي عدوان محتمل من قبل إسرائيل. وفي هذا الإطار باتت "حماس" تلعب دوراً في مقاومة انتهى بها الأمر إلى إجبار إسرائيل على إخلاء قطاع غزة وتفكيك مستوطناتها في 2005، وهو -أي التفكيك- سابقة هي الأولى من نوعها اتقاءً لضربات المقاومة، وإزاحة للعبء الأمني في غزة عن كاهل إسرائيل، وإن مارست عمليات القصف في القطاع كلما رأت ذلك ضروريّاً لأمنها، غير أن "حماس" للأسف وقد شعرت بشعبيتها نتيجة دورها في المقاومة بلعت هي الأخرى طعم "السلطة الوطنية"، فنافست في الانتخابات التشريعية لعام 2006 بعد أن كانت تقاطع أي شيء ذي صلة باتفاقية أوسلو، واكتسحت هذه الانتخابات، لتصبح في موقع السلطة وتكتسب الحق في تشكيل الحكومة الجديدة وتبدأ في التحسب للمواجهة مع إسرائيل التي يمكن أن تعرضها لضربات موجعة وهي ما زالت في مرحلة بناء سلطتها على الأرض الفلسطينية، ونتجت عن هذا تهدئة عامة من قبل "حماس" لأعمال المقاومة ضد إسرائيل، وزاد الأمر سوءاً أن الصراع بينها وبين "فتح" بدأ يشتد بالتدريج على توزيع السلطات، خاصة وقد ظل لـ"فتح" وجودها في السلطة من خلال منصب الرئيس فيما كان منصب رئيس الوزراء من نصيب "حماس" وفقاً لنتائج الانتخابات التشريعية -كما سبقت الإشارة- ووصلت الأمور بذلك الصراع إلى تفجره في شكل مسلح في عام 2007 لتنفصل غزة عن الضفة الغربية تحت حكم "حماس" فيما احتفظت "فتح" بسيطرتها على الضفة في واحدة من أسوأ مراحل النضال الفلسطيني في سبيل استعادة الحقوق. وعلى صعيد الإطار الخارجي للحركة الفلسطينية لم تكن الأمور أفضل كثيراً، فقد بدا العجز الفعلي سمة أساسية من سمات الموقف العربي الذي بات يكتفي بالإعراب عن "إعزازه وتقديره" للشعب الفلسطيني -وليس لمقاومته- ويكتفي كحد أقصى بتقديم بعض الأموال من حين لآخر للسلطة الفلسطينية. وعلى الصعيد الدولي لم يحدث أي اختراق كما هو متوقع للدور الأميركي الملتزم تماماً بأمن إسرائيل وسياساتها مهما اتخذت السياسة الأميركية من مبادرات، وأمكن رصد تقدم تدريجي في المواقف الأوروبية دون فاعلية تذكر طالما ظلت غير قادرة على تحدي السياسة الأميركية. وتمثل الاستثناء الوحيد في البيئة الإقليمية للنضال الفلسطيني الذي حظي بعض فصائله بدعم معلن من إيران منذ ثورتها في 1979، وإن ذهب الدعم الفعلي المؤثر إلى "حزب الله" في لبنان. أما تركيا قد حدث تقدم هائل في مواقفها العربية عامة وتجاه القضية الفلسطينية خاصة، ولكن السمة الواضحة لهذا التقدم تمثلت في غلبة "الطابع اللفظي" عليه. وإن أدى ذلك إلى تصاعد في شعبية تركيا داخل الوطن العربي. وهكذا خيم مناخ هزيمة 1967 من جديد كأقسى ما يكون في السنوات الأخيرة، وأخذ الزمن يقترب بنا تدريجاً من مرور نصف قرن عليها دون أن نكون قادرين على إزالة أهم آثارها. ومن هنا حملت رياح التغيير القوية التي عصفت بكل من مصر وتونس في نهاية عام المنصرم ومطلع 2011، ونجحت في إطاحة نظاميهما -قبل أن تمتد إلى بلدان عربية أخرى- حملت آفاقاً جديدة للتغيير والأمل. تضمنت شعارات المطالبين بالتغيير بعداً عروبيّاً واضحاً وفلسطينيّاً بصفة خاصة، وكان لابد أن ينعكس هذا على السياسة الخارجية المصرية التي شهدت عملية مراجعة مهمة لسياساتها تجاه إسرائيل، صحيح أنها لم تمس جوهر العلاقة التعاقدية معها بموجب معاهدة السلام لعام 1979 إلا أنها تضمنت مواقف عديدة لصالح النضال الفلسطيني أربكت إسرائيل كثيراً وعلى رأسها النجاح في تحقيق المصالحة بين "فتح" و"حماس" بعد فترة وجيزة من حدوث التغيير في مصر، وكسر حصار غزة الذي أصبحت السياسة المصرية الجديدة تعتبره جريمة حرب، ومراجعة سياسة تصدير الغاز لإسرائيل، وهو ما أوجد مناخاً جديداً من التفاؤل خاصة إذا ما استقرت الأمور في مصر وغيرها من البلاد التي تعرضت وما زالت لرياح التغيير. إذ أنه في ظل هذا المناخ يمكن الحلم بجعل هزيمة 1967 شيئاً من الماضي، وتحقيق انطلاقة جديدة لبناء القوة واستعادة الحقوق، وهي مهمة تبدو بالغة المشقة محوطة بصعوبات هائلة، ولا عجب، فهي تقع في قلب عملية صناعة تاريخ جديد للأمة.