لم يزل كثيرٌ من العلماء يجهدون في التاريخ بحثاً عن منطقه واستقراء مساره واكتشاف دلالاته، ولم يزل كثير من العلماء من جهةٍ أخرى يجهدون في محاولة استشراف المستقبل ومعرفة مآلات الواقع ومعطياته، وتحت هذين العنوانين العريضين علوم لها أسسها وقواعدها. كان النظام السوري معنياً بتعليم العلماء والخبراء ما لا يعلمون في السياسة كما في القانون، فهل حاول النظام أن يتعلم شيئاً من التاريخ أو من الواقع؟ وهل درس شيئاً من علم استشراف المستقبل؟ أخطأ كثيرون ممن حاولوا استقراء مستقبل الشرق الأوسط، مفكرون وساسةٌ من المنطقة ومن الشرق والغرب، ولم يتنبأ أيٌ منهم بما جرى ويجري الآن من انتفاضات واحتجاجاتٍ، ولا تثريب عليهم، ولا تثريب على النظام السوري إن كان أمره مثلهم. لكن التثريب عليه يأتي من عدم وعيه بأن مجرى التاريخ سائرٌ، وأرواحه المتخلقة مستمرّةٌ، وأنّ لغة الأجيال الجديدة يجب أن تختلف بالضرورة عن لغة الأجيال السابقة، وأنّ السياسي المحنك هو من يعي هذا المجرى ويفهم تلك الأرواح، ويتعلم اللغات الجديدة، وفي لحظات إعادة التخلّق التاريخي، يختلف من ينظر للأفق القادم ويركض باتجاهه، ومن ينظر للماضي فيحتبس بانتظار استعادته، فيسيطر على الأوّل تفكير الخلق والإبداع والتجدد، وعلى الثاني إعادة المشهد برمّته لصناديق ماضوية مغلقةٍ ورثّت إحناً وذحولاً، لم يبد النظام هناك أي جهدٍ لاستلالها من نفوس الشعب، بل يبدو العكس صحيحاً حيث يسعى النظام لإحياء قديمها وإنتاج نسخٍ محدثةٍ منها مع مراعاة شيء من تغيّر المعادلات الداخلية والإقليمية والدولية تؤثر على تصرفاته. تثريبٌ آخر على النظام حين لا يدرك أنّ في تاريخ الأفراد والمجتمعات، كما في تاريخ الأمم والدول، فإن القابلية للتطوّر هي ضمانة الاستقرار والاستمرار، والعكس صحيحٌ: فحين تكون القيادة السياسية قادرةً على استباق المشهد بشوطٍ أو شوطين فإنها تنجح وتبقى، ولكنّ حين تستعصي على الحراك، وتتأبى على التغيير، حينذاك تواجه تحدياتٍ بلا حدٍ، وآثاراً سلبيةً بلا عدٍ، وارتكاساتٍ بلا حصر. خطيرٌ هو الفرق الذي تصنعه القدرة على التطوّر والتأقلم، بل والاستباق مع تطور التاريخ واختلاف الوقائع وتناقض الأحداث، وفي استثناءات التاريخ حين يُختزل الزمن يجب على العقول أن تجري في المضمار لتكتشف المستقبل وتكشف القادم، والخمول هنا عطبٌ محض. يلاحظ مما جرى في تونس ومصر والآن في سوريا أن الاحتجاجات تبدأ بأيام الجمعة فترةً ثم تنتقل إلى أيام الأسبوع، وحينها تشتت تركيز النظام واستعداداته الأمنية للمواجهة، والجسر الذي تنتقل عبره الاحتجاجات يبنيه النظام بنفسه، وذلك عندما يمنح دفعة لزيادة الاحتجاجات من خلال قتله لأعداد كبيرةٍ. من جهة أخرى تسعى الاحتجاجات للتفتيش عن مبررٍ متجددٍ ورمزيٍ لاستمرارها وتصاعدها، ومن هنا فتشت الاحتجاجات في سوريا عن بوعزيزي شامي ووجدته أخيراً في الطفل حمزة. جزء من استراتيجية النظام السوري بدأ يتضح شيئاً فشيئاً، وعود كبيرة تحت شعاراتٍ كبرى دون تنفيذ أي منها على الأرض، هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى قمع للاحتجاجات يتبع النظام فيه طريقة باتت قابلة للقراءة نوعاً ما، ذلك أنّ النظام بما أنه لا يستطيع ارتكاب مجازر تاريخية كبرى كتلك التي جرت في حماة سابقاً نظراً للاختلاف الهائل بين اللحظتين إنْ بسبب التطوّرات السياسية الهائلة في العالم، وإنْ بسبب الإعلام والإعلام الجديد وقوة تأثيره وبلاغة رسالته وإن لأسبابٍ أخرى كثيرةٍ، وبما أنّ جيشه موحّدٌ بلا انشقاقات من أي شكلٍ أو نوعٍ، فقد اعتمد النظام أسلوب إعادة الخوف وتعزيز الرعب، وذلك أنّه يتابع المدن وحجم الاحتجاجات فيها، وحين تزيد الاحتجاجات في هذه المدينة أو تلك، يوجه قواته إليها ويحاصرها بآلياته العسكرية وينشر فيها عناصره الأمنية وما يُسمّى بالشبيحة ويشرع بالقتل في الشوارع، ولكنّه يحرص ألا يصل القتل لمجزرةٍ بل عشرات القتلى موزعين في أرجاء المدينة حتى يخمد الاحتجاجات دون أن يستدعي ردة فعل دوليةٍ، ثم ينتقل لمدينة أخرى وهكذا. في لحظات التحولات التاريخية الكبرى، يحتاج كل من يسعى للبقاء والنفاذ والتأثير إلى قدرةٍ كبيرةٍ على التطوّر واستباق الأحداث، وهو ما لم يبد النظام السوري أي مؤشرٍ عليه منذ بدء الأحداث وحتى اليوم، ولدى النظام قائمة طويلة من مهام التطوير الضرورية- إنْ أراد هذا المسلك- تبدأ بتطوير المشروعية السياسية والعلاقات الدولية ولا تنتهي بطبيعة النظام وبنيته، وعلاقته بالشعب ومؤسساته، بلغة التاريخ ولغة المصالح ولغة الأخلاق ولغة المجتمع فيجب أن يتم الانتقال بسلاسة وسرعةٍ متعقلة لوضعٍ جديدٍ بالكامل. في الداخل تبدو المدن السورية في حالة استنفارٍ شعبيٍ أقوى مما كان في الأسابيع الماضية، وتبدو عمليات القمع وكأنها صب للزيت على النار، فهي تزيد الاحتجاجات وتمنحها وقوداً جديداً بعد كل هجمة على مدينة أو حصارٍ لأخرى، وبالنتيجة فالاحتجاجات الداخلية هي التي تحسم القضية، وخصوصاً حين تتزايد الأعداد لتصل لمئات الآلاف، وتنتقل لدمشق وحلب المدينتين الرئيسيتين في سوريا. في الخارج، عقدت المعارضة اجتماعين واحدٌ في أنطاليا عقد برعاية تركيةٍ جمع أطيافاً متنوّعةٍ من المعارضة السورية، والثاني عقد في بروكسيل نظمه وقاده "الإخوان المسلمون"، والمؤتمران خرجا بتوصياتٍ تفاوت سقفها المطلبي وإنْ أجمعت على أن حراك الداخل هو الذي يحدد سقف المطالب. مواقف تركيا متقدمة وفاعلة في كل دول الاحتجاجات العربية، من ليبيا إلى سوريا، ولديها هواجسها الداخلية خاصةً في سوريا، فالأكراد السوريون قد ينتقل تأثيرهم سريعاً إلى الأكراد الترك، والعلويون في تركيا عددهم أكبر بكثيرٍ منهم في سوريا التي تحكمها عائلة منهم. قوتان في المنطقة تسعيان بجهدٍ حثيثٍ للمشاركة في غالب أحداث المنطقة وتملكان القوة السياسية والاقتصادية هما تركيا ومجلس التعاون الخليجي. وتظل الولايات المتحدة هي الغائب الأكبر عن المشهد السوري، ويبدو الموقف الأوروبي أكثر اندفاعاً منها لفعل شيء تجاه النظام السوري بدأها بالعقوبات ولم تزل تصريحاته في تصعيدٍ ولكنّ أميركا تبدو وكأنها تراوح في مكانها. أخيراً، فإن كانت لغة السياسة المصالح، ولغة الواقع الممكن، فإن لغة التاريخ أشمل وأعمق وأبقى، وتفلح السياسة حين تفهمها ويفلح الواقع حين يستوعبها، ويبقى المشهد السوري مفتوحاً. عبدالله بن بجاد العتيبي Bjad33@gmail.com