ما تزال التحولات العربية في مرحلة عدم الاستقرار، ذاك أن بعضها نجح في إزالة الأنظمة المستبدة، وبعضها الآخر ما يزال في ذروة المحاولة، والبعض الثالث تم تجميد أسبابه. وحتى التغييرات التي أنجزت أحلام شبابها وشعوبها في انتزاع حريتها وكرامتها، مثل مصر وتونس، وإلى حد ما ليبيا، فإنها بطبيعة الأمور غرقت في شؤون ترتيباتها الداخلية وصوغ شرعيات سياسية جديدة متوافق عليها تقوم على أنقاض الديكتاتوريات المنقضية. وفي خضم هذه السيولة الراهنة في أحداث كبرى وقعت ولا تزال تقع في بلدان عربية عدة يبدو النظام العربي والإقليمي كسفينة تتلاطمها أمواج هائجة لم تستقر بعد، ومن الصعب التكهن بالوجهة النهائية التي ستتجه أشرعتها إليها. ولا يقتصر استقرار (أو عدم استقرار) السفينة الإقليمية على طبيعة الديناميات الخاصة بها، بل هناك عناصر العلاقات الدولية ومصالح الدول العظمى في المنطقة التي تتدخل وتريد للنظام الإقليمي في مرحلة ما بعد الثورة أن يتشكل وفقاً لمصالحها، أو على الأقل ليس على الضد منها. ذلك كله، سواء ما تعلق منه بآليات التحول الداخلي الحادة أو مؤثرات التدخل الخارجي القوية، هو في طور السيرورة وليس الانتهاء على شكل ما. ولذلك من الضروري التريث عند محاولة تحليل ما يمكن أن تؤول إليه صيغة النظام العربي قيد التشكل وتفادي الزعم بالقدرة على رسم شكل دقيق أو شبه دقيق لما سيؤول إليه هذا النظام بعد أن ارتجت أساساته كليّاً تحت وطأة زلزال وتسونامي التحولات العربية. وكل ما يمكن الطموح إليه هو تقديم ملاحظات أولية وتقديرية تجمل التداعيات الأساسية لهذه التحولات على النظام العربي كما عرفناه خلال السنوات القليلة الماضية، وتندرج هذه السطور في هذا السياق محاولة استشراف بعض ملامح المرحلة القادمة -مجرد استشراف. وأول التداعيات على النظام العربي الذي ساد حتى وقت قريب هو انهيار الشكل الاستقطابي العام الذي بُني على أساس محوري "الاعتدال" و"الممانعة". نعرف أن مصر المباركية كانت الركن الأساسي لمحور "الاعتدال" الذي كان عمليّاً يمثل الواجهة العربية المقربة من السياسة الأميركية، إن لم نقل تمثيلها الحقيقي، في المنطقة. مصر المباركية انهارت ومعها انهار عمليّاً، ولو مؤقتاً، الشكل التقليدي الذي عرفناه لمحور الاعتدال. ونعرف أيضاً أن سوريا "البعث" كانت تمثل الركن العربي الأساسي لما يعرف بمحور "الممانعة"، وهو الذي مثل الواجهة العربية المعارضة للسياسة الأميركية ولو شعاراتيّاً ولفظيّاً. سوريا البعث هي الآن قيد التغير الجذري الذي سينهي ولو مؤقتاً الشكل التقليدي الذي عرفناه لمحور الممانعة. والمؤشرات الأولية للسياسة الخارجية لمصر ما بعد الثورة تشير إلى موقع وسط بين محوري الاعتدال والممانعة التقليديين -أقل انصياعاً للضغوط والسياسة الأميركية لكن ليست في موقع الضد أو العدو (الممانع) منها. ويمكن المغامرة بالقول إن سوريا ما بعد الثورة، وسواء تغير النظام فيها أم لم يتغير، ستتحرك باتجاه نفس المربع الذي اتجهت إليه مصر الثورة، ولكن من الطرف الآخر، حيث ستكون أقل شعاراتية وتوظيفاً لمسألة المقاومة خاصة بعد انكشاف خواء الشعار وحقيقة توظيفه وأن "المقاومة" وخطابها لم يكونا سوى أدوات لتخليق شرعية للنظام القائم. وبقية "الأعضاء" في هذين المحورين، الاعتدال والممانعة، سواء كانت دولاً أم منظمات، سوف يتأثر موقفها بشكل كبير بسبب التغيير الجذري في موقع وطبيعة "العضو الأساسي". وعلى أنقاض التبعثر لمحوري الاعتدال والممانعة قد تقوم أشكال إقليمية جديدة مكوناتها الأساسية خليط علاقات ووحدات (أنظمة وحركات وتيارات) مما قد تبقى من النظام العربي المتفكك ومما قد نشأ حديثاً في أعقاب التحولات العربية. ومرة أخرى ما يزال التبلور النهائي لمواقف وسياسات الوحدات المكونة للشكل أو الأشكال الجديدة قيد الحدوث، ولكن في إطار هذا التبلور يمكن تلمس بروز تكتلات أو توجهات عامة تؤثر في شكل الإطار العام للنظام العربي الجديد وأهمها الآن ما يحدث في منطقة الخليج. وهنا ربما أمكن القول إن أكثر التداعيات على النظام العربي وضوحاً يتشكل عمليّاً في إطار وحول مجلس التعاون الخليجي. فـ"المجلس"، في سياق الاستجابة السريعة والاحتوائية للتحولات ومنتجاتها، يدخل الآن طوراً من التبدل السريع أهم جوانبه الاتساع في ما وراء جغرافيا دول الخليج العربي، وعدم إخضاع نمط التعاون والاندماج السياسي والاقتصادي فيه لشرط القرب والتواصل الجغرافي. ولا نستطيع حتى الآن تحديد عمق هذا التبدل أو مدى الوعي بانعكاساته أو حتى مدى التوافق الداخلي عليه. ولكن الشيء شبه المؤكد، والذي تتشكل حوله مؤشرات متزايدة، يتمثل في محاولة تقوية مجلس التعاون الخليجي وتمتين بنيته الداخلية وعلاقاته الإقليمية كإجراء استراتيجي وقائي يحمي دول الخليج من أية مفاجآت مستقبلية، وقد تجسد ذلك في الدعوة المفاجئة للأردن والمغرب للانضمام إلى المجلس. ويمكن تحليل هذه الخطوة، على مستوى أكثر تفصيلاً، من عدة زوايا أولها التغير الذي وقع في مصر والإحساس الخليجي بأن مصر ما بعد الثورة لن تكون نفس مصر المباركية من ناحية السياسة الخارجية القريبة وشبه المتطابقة مع سياسة مجلس التعاون الخليجي. وثانيها تفاقم التهديدات إزاء الخليج التي توازت مع الاحتجاجات. وثالثها اهتزاز الثقة الخليجية بالسياسة الأميركية ومدى دعمها للأنظمة القائمة في ظل انتقادات خليجية لواشنطن بسرعة تخليها عن حلفائها في تونس ومصر في مواجهة التحولات الداخلية في بلدانهم، مما ولد شعوراً بالقلق والحاجة إلى بناء استراتيجيات تعتمد على الذات وعلى الحلفاء العرب (الأردن والمغرب في هذه الحالة). بيد أن تشكل "محور الخليج الموسع" قد يتجاوز الأردن والمغرب إلى بلدان أخرى، أولها ليبيا ثم اليمن وربما سوريا. فمن الواضح الآن أن ليبيا القذافي، التي كانت محيرة دوماً في التصنيف، وإن كانت لفظيّاً وشعاراتيّاً تصنف نفسها في خانة دول الممانعة والمقاومة، ستتشكل في حقبة ما بعد القذافي قريباً من "محور الخليج الموسع" الذي هو الآن قيد التبلور. فدول مجلس التعاون الخليجي وقفت ومنذ بدايات الثورة الليبية إلى جانب الثوار، دبلوماسيّاً، وسياسيّاً. والمجلس الانتقالي الذي يتحدث باسم الشرعية الليبية الجديدة يحمل جميلًا كبيراً لدول الخليج وبالتالي من المتوقع أن تكون السياسة الخارجية لليبيا ما بعد الثورة قريبة من السياسة الخليجية. وينطبق الأمر، وإن بدرجات مختلفة، على اليمن، ولكن من السابق لأوانه التكهن بمسار الأمور هناك. وكذا الأمر بالنسبة لسوريا، إذ ربما ينشط في المراحل الأخيرة من الثورة دور خليجي يستهدف استقطاب سوريا ما بعد التغييرات إلى الفلك الخليجي. وقد ينطبق أيضاً على تونس خاصة إذا ما اشتغل الاقتصاد السياسي الخليجي على احتواء تونس ومساعدة اقتصادها على معاودة النهوض في مرحلة ما بعد الثورة. وليس من المستبعد أن أنظمة ما بعد التحولات العربية ستكون قريبة جدّاً من مجلس التعاون الخليجي، وكل منها لأسبابه الخاصة به.