السؤال المطروح في أيامنا بقوة في الساحات العربية التي اشتعلت فيها الثورات الاحتجاجية هو: من سيخلف الأنظمة الأحادية الاستثنائية التي انهارت أو هي في طور الانهيار؟ لا يتعلق الأمر هنا بأسماء بعينها، وإنما يتعلق بالقوى والتشكيلات التي قد تكون مرشحة في وقتنا الراهن للإمساك بالأمر العام في الجمهوريات العربية الجديدة. فمن المعروف أن الأنظمة المنهارة استندت في الوصول للحكم ولاستئثار به إلى دعم المؤسسة العسكرية التي تحولت إلى فاعل سياسي محوري منذ حركة الانقلابات التي انطلقت من سوريا وامتدت إلى مصر والعراق وبقية البلدان العربية. وعلى الرغم أن اختراق المؤسسة العسكرية للحقل السياسي لم يكن خاصاً بالبلدان العربية، بل نلمس الظاهرة نفسها في أفريقيا وأميركا اللاتينية، إلا أن الأحكام العسكرية العربية اتسمت بخصائص ثلاثة مميزة: أولاها: حمل مشاريع أيديولوجية وطنية وقومية طموحة غطت على النظام العسكري المباشر ومنحته "الشرعية "الثورية، في حين قدمت أغلب الأنظمة العسكرية الجنوبية نفسها بصفتها أحكاماً مؤقتة لإدارة الأزمات الظرفية ولتهيئة الأرضية الملائمة للتحول الديمقراطي (حتى ولو كان المؤقت يتحول في غالب الأحيان إلى حال دائم). وإذا كان من الصحيح أن التنظيمات الأيديولوجية سعت منذ الأربعينيات إلى تكوين أجنحة عسكرية تحقق وصولها إلى الحكم، فإن ما حصل بالفعل هو استئثار الذراع العسكري بالشرعية الثورية وبالمرجعية الأيديولوجية، مما أفضى دوماً إلى القطيعة بين القيادتين السياسية والعسكرية في التنظيم الحزبي. حدث هذا المشهد في مصر بعد حركة "الضباط الأحرار"، الذين كانوا في الأصل قريبين من جماعة "الإخوان المسلمين"، كما حدث في سوريا بعد وصول الضباط "البعثيين" للحكم الذين انقلبوا على القيادة التاريخية للحزب الذي أسسه "ميشل عفلق"، وفي الجزائر بعد انقلاب "هواري بومدين" على القيادة السياسية لـ"جبهة التحرير"، التي قادت الثورة ضد الاستعمار. ثانياً: يفسر عادة تضخم دور المؤسسة العسكرية في الحقل السياسي بتأثيرات ومقتضيات الصراع العربي – الإسرائيلي ، إلا أن هذا الصراع تحول على الأصح إلى ذريعة لتقوية وتركيز نفوذ الجيش في الرهان السياسي.بيد أنه لا بد أن نلاحظ هنا إن متطلبات الاحتفاظ بالسلطة اقتضت دوماً الفصل داخل النسق السياسي بين الجناح العسكري المندمج في جهاز الحكم والجيش كمؤسسة محترفة تشكل مصدر خوف من الانقلابات العسكرية أكثر مما تشكل سنداً فعلياً للحكم. ينتج عن ذلك إفساد المؤسسة العسكرية وإضعافها وإنشاء جهاز مسلح وأمني مواز يتكون أساساً من عناصر الطائفة والقبيلة الذين يفترض فيهم الولاء، مما نلمسه واضحاً في كافة الأنظمة العسكرية العربية تقريباً. ويجدر التنبيه هنا إلى أن البلدين العربيين اللذين شكلا استثناء لقاعدة المؤسسة العسكرية الأهلية الموازية وهما مصر وتونس، استطاع فيهما الجيش أن يؤدي دوراً إيجابياً في دعم التغيير الديمقراطي. ثالثاً: يقوم النظام العسكري على اختلاف تلويناته الأيديولوجية على نظام الحزب المهيمن سواء أخذ النظام السياسي شكل البنية الأحادية (سوريا وليبيا والعراق البعثي...) أو أخذ شكل نظام تعددي (كما هو الحال في أغلب البلدان العربية في العقدين الأخيرين). ولا فرق في الجوهر بين الحالتين، ما دامت الحالة التعددية (المقيدة والموجهة)، هي عادة من أدوات التحكم الأحادي في السلطة بإضفاء "شرعية" ديمقراطية مموهة على النظام الشمولي القائم. بانهيار الأنظمة العسكرية العربية، ما هو البديل المرتقب لحكم البلدان العربية التي يؤمل فيها قيام تجارب ديمقراطية تعددية؟ لا بد هنا بطبيعة الحال من التمييز بين الساحات العربية التي تختلف من حيث سياقاتها التاريخية والمجتمعية، كما أن مشاهد التحول لا تزال غامضة في بعض البلدان المشتعلة هذه الأيام، مما يحول دون القدرة على التنبؤ بمستقبل أوضاعها. إلا أن الحقيقة التي يتوجب التذكير بها هي أن الخاصية المميزة لنظام الحكم الديمقراطي هي سمته اللاتحديدية، أي انفتاحه على احتمالات متعددة ومتغايرة واستحالة الحسم المسبق لمشهد السباق لدائرة السلطة. وليس الأمر هنا مجرد خاصية تنظيمية إجرائية، بل هو راجع إلى ما تصدر عنه الديمقراطية من إطار نظري وقيمي أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي "كلود لفور" عبارة "تحلل معايير اليقين"، أي غياب أي سقف معياري ضابط أو مقيد للرهان السياسي التلقائي والحر. فالأنظمة الشمولية المنهارة بقدر كانت مهيمنة على مراكز القرار والسلطة، كانت في الآن نفسه محتكرة للقيم العمومية سواء باسم المرجعية القومية أو حتى المرجعية التحديثية العلمانية (كالنظام التونسي السابق مثلاً). ومن المؤكد أن الحالة التعددية الجديدة (المتسمة بالتنوع الشديد)، ستحول دون استئثار قطب سياسي بعينه بالسلطة في الانتخابات المرتقبة، كما أن الديمقراطية التعددية لا تتناسب ومنطق الزعامة، الذي كان ملازماً للنظام العسكري الأحادي. ويمكن في هذا السياق أن نقف عند مؤشرين بارزين للمعادلة السياسية في البلدان العربية التي نجحت فيها التغيرات العربية: - تمحور الصراع السياسي حول قطبين: إسلامي محافظ شديد التنوع وقطب حداثي ليبرالي لا يقل تنوعاً، مع ما تقتضيه هذه الثنائية من تسويات مرحلية وتحالفات مؤقتة وتغير دائم في الموازين السياسية. - انحسار الدور السياسي للمؤسسة العسكرية، التي احتفظت ببعض الحضور في المرحلة الانتقالية الحالية وصل ذروته في الحالة المصرية. ففي الوقت الذي لا يعتقد أن الجيش سيحتفظ بأي مهمة سياسية مباشرة في المعادلة القادمة، إلا أنه قد يؤدي في بعض الساحات المهددة بعدم الاستقرار والاحتقان الداخلي دوراً انتقالياً، يمتد إلى ما بعد اللحظة الانتخابية. أما في البلدان التي انهارت فيها المؤسسة العسكرية (كما هو شأن ليبيا)، فإن الخطر يكمن في تداخل البعدين العسكري والسياسي في عملية إعادة بناء القوة المسلحة المركزية (مما نلمسه حالياً في المشهد العراقي). الرئيس العربي الجديد لن يكون إذن نموذج "الضابط الزعيم" الذي احتكر قيادة العمل السياسي في نصف القرن الأخير في الجمهوريات العربية ...وما أعمقه من تحول.