قبل الثورة المصرية بشهور قليلة، ظهر "تيار المثقفين المستقلين"، الذي قام على أكتاف مجموعة من الأدباء والكتاب والفنانين والنقاد الذين لم ترق لهم السياسة الثقافية التي اتبعها وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني. وقد سبب تكوين هذه المجموعة قلقاً كبيراً للحكم، الذي تعود على احتواء المثقفين وتدجينهم وتوظيفهم لخدمة أغراضه. وأطلقت المجموعة بياناً معبراً انطلقت فيه من حقيقة لم تكن خافية على أحد ألا وهي انحدار الثقافة المصرية في عهد هذا الوزير إلى مستوى مخيف، غير منبت الصلة عن الحالة العامة المشبعة بالفساد والاستبداد التي وصمت نظام مبارك. فرغم حديث رسمي مستفيض عن التحديث والتنوير والإصلاح, فإن الواقع العملي شهد بجلاء غياب مشروع ثقافي يليق بأعرق دولة في تاريخ الإنسانية، وأكد بما لايدع مجالاً للشك فيه، عدم وجود أي استراتيجية ثقافية تخرج مصر من ضيق الآني إلى براح الآتي، وتعزز ثقافتها الوطنية لتصد وترد الثقافات الغازية الموزعة على تفلت ظاهر وتشدد مقيت. ومن أسف فإن عدداً كبيراً من المثقفين قد انسجموا مع هذا الوضع المزري، وظلوا سادرين في صمتهم المريب وانتفاعهم المخزي حتى سقط النظام تحت أقدام الثوار. وقد رأت مجموعة "المثقفين المستقلين" وقتها أن الفعل الثقافي المصري قد تحول في السنوات الأخيرة إلى عمل مظهري يتقدم فيه الشكل على المضمون، والمهرجان على الأثر، والفرد على الجماعة، مثلما وصف بيانها المؤسس الذي صاغ مسودته الأولى الناقد والشاعر الدكتور علاء عبد الهادي. وقد أصيب هذا الفعل بمرض عضال من التخبط والارتباك، في ظل غياب التفاعل الخلاق بين المؤسسات الثقافية الرسمية والواقع المعيش، ومع الاكتفاء برطانة زاعقة وبلاغة جوفاء على حساب عمل يتوخى العلم، وممارسة تنتصر للنهوض والتقدم، وتصور ينحاز لأشواق المصريين إلى الحرية والعدالة والكفاية. إن دور وزارة الثقافة لا يجب أن يختزل في نشر مشروط للكتب، ولا في إنشاءات وترميمات ينهض بها المقاولون وتحسب في سجل إنجازاتهم، وتتقدم بها المباني على المعاني، ولا في محاولات رخيصة ومستميتة لتدجين أرباب الفكر والقلم، والسعي إلى توظيفهم في تبرير السياسات العرجاء، واستعمالهم في تجميل التصورات القبيحة التي تشد كل شيء في حياتنا إلى الوراء، وضمان سكوتهم على القوانين والتشريعات التي تقيد حرية التفكير والتعبير والتدبير، ومحاصرتهم حتى يستسلموا للمحاولات الماكرة التي تزيح الثقافة كي تصبح شيئاً ثانوياً في حياة المصريين المعاصرين، وتسعى إلى تفريغ كل عمل ثقافي من مضمونه، وتحاول إبعاد الفن والفكر عن أداء دورهما في الأخذ بيد الناس وتبصيرهم وتنويرهم والانتصار لجهدهم الدؤوب في سبيل تحسين شروط الحياة. من كان يمعن النظر في حال مصر الثقافي أيام النظام السابق سيصدمه على الفور غياب الشعور بالانتماء بين العديد من المثقفين لفقدانهم الثقة في قدرة المؤسسات الثقافية على تقديم شيء إيجابي، وسيكتشف هذا الفصام النكد بين قطاعات عريضة من منتجي الفنون والمعارف وبين الحراك السياسي الذي كانت تموج به مصر بشكل لا يخفى على كل ذي عين بصيرة وعقل فهيم، وسيضنيه غياب مشروع ثقافي حقيقي لدى السلطة، وفي برامج أحزاب المعارضة وممارساتها، وسيفجعه استشراء الروح الجامدة على التفكير الديني بما يضرب في مقتل الثقافة المصرية الراسخة والأصيلة التي طالما انحازت إلى الوسطية، وحافظت على التسامح وشجعت على الإنجاز، وستروعه كذلك حالة الاحتقان الطائفي التي كانت تتزايد يوماً بعد يوم، والتي انفجرت في عدة حوادث بعد الثورة، لم تكن من صنع الثوار، إنما ضمن الميراث الثقيل الذي تركه النظام السابق. لكل هذا، رأت مجموعة "المثقفين المستقلين" حينئذ أن الوقت قد حان لانخراط المفكرين والمبدعين في بناء تصور بديل، يعيد الثقافة إلى أصحابها، وينزعها من التجار الذين حولوها إلى سلعة رخيصة، وتكسبوا بها دون أي وازع من دين أو وطنية أو أخلاق، وصمتت السلطة عن هذا المسلك الوعر، لأنها لم تكن تروم نهضةً ولا تقدماً، إنما كانت تستخدم الثقافة والمثقفين مجرد قلائد للزينة تضعها على جسدها المتحلل، لعل الناس لا يلتفتون إلى تداعيه وتعفنه، وينشغلون بهذه الزينة العابرة. وكانت تستخدم العلم مثل "الصلصة" التي توضع على السمك المشرف على التعفن لعلها تجعله مستساغاً. وقد ختم البيان، الذي كان لي شرف الإسهام في صياغته، كلماته بعبارة دالة مفادها: "هذا البناء الذي نعول أن يكبر مع الزمن ليصبح صرحاً شامخاً، سيبنى على أكتاف كل "المثقفين المستقلين" الذين أطلقوا حركة مهمة للتصدي للفساد الثقافي، وهم بالطبع يرومون إطلاق كل القوى الكامنة لتجرف في طريقها الأحوال الثقافية البائسة والراكدة والفاسدة، وتسهم في فتح الباب على مصراعيه أمام الديمقراطية والكفاية، وتعيد للمثقف دوره الحقيقي، وتسد الهوة التي اتسعت في العقود الأخيرة بين من يكتب ومن يقرأ، وتدفع في اتجاه استعادة مصر لدورها الثقافي الرائد في العالم العربي، وتساعد في بناء رؤية وطنية متماسكة قادرة على الصد والرد في مواجهة التيارات السلبية للعولمة، وبوسعها أن تضمن لنا حضوراً ملائماً في المشهد العالمي الذي يتجدد باستمرار". قامت الثورة السياسية، فانخرط فيها من أسسوا مجموعة "المثقفين المستقلين"، وانتهت الموجة الأولى بانتصار كاسح حين أجبر مبارك على الرحيل. واليوم ونحن نعيش الموجة الثانية من الثورة التي تشهد صراعاً ضارياً في معركة "الهدم والبناء" وتنافساً شديداً بًين التيارات السياسية على قطف الثمار، من الضروري أن تستعيد هذه المجموعة نشاطها، لأن مصر في حاجة ماسة إلى ثورة ثقافية، تشكل رافعة مهمة لاستكمال انتصار الثورة السياسية، لاسيما أن حال وزارة الثقافة لم يتغير بطريقة جوهرية عما كان عليه في الماضي، فالحظيرة أو "التكية" التي فُتحت للمثقفين لم توصد، ولا تزال بلادنا بلا مشروع ثقافي يحفظ لها قيمها الراسخة وتدينها المعتدل وتسامحها المعتاد ورغبتها المتجددة في صنع المعجزات. روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي