ثمة من يعتقد أن المنطقة تعيش أحداثاً كثيرة وتحولات خطيرة، وعدم استقرار، فيما لبنان ينعم باستقرار! هذا اعتقاد خاطئ، تُبنى عليه حسابات غير صحيحة، وستكون نتائجها سلبية. وثمة من يعتقد أيضاً أنه ما دام الوضع الأمني مستقراً، فلا بأس إن تأخر تشــــكيل الحكومة، وهذا اعتقاد آخر غير صحيح. ونتائجه ستكون مفاجئة. وثمة من يقارن لبنان ببلجيكا من خلال القول إن بلجيكا عاشت بدون حكومة لأشهر، ولم يحدث شيئاً، فلماذا الخوف في لبنان وعليه؟ وثمة من يعتقد ويقول إن لبنان عاش في مراحل سابقة أزمات من هذا النوع، ولم تهتز الدنيا. كل هذه الاعتقادات غير صحيحة. ما يجري في لبنان خطير بلا أدنى شك، فالمتغيرات والتحولات لا تتم بهدوء أو بشكل ديمقراطي سلس. ثمة أنظمة تهتز، ودماء تهرق. ودول تتفكك ومؤسسات تنهار وأحقاد تزرع في النفوس بين الناس، والأنظمة أو بين الناس في وجه بعضهم بعضاً. وهي تأخذ طابعاً مذهبياً حاداً، وفي كل الحالات، فإن ما يجري يؤثر في الوحدة الوطنية، وقد يؤدي إلى رسم خرائط جديدة على أساس الواقع الجديد، فكيف نطمئن في لبنان، ونحن اعتدنا على اهتزازات في الداخل مربوطة باهتزازات في المحيط، أو مبرمجة من هنا وهناك ومركبة على العوامل الخلافية في حياتنا السياسية اليومية؟ لقد انطلق مشروع التقسيم من لبنان. توقف بشلال من الدم. حافظ لبنان على وحدته لكنها بقيت مهددة. كنا في حالة طائفية، وكاد البلد أن ينهار. اليوم نحن في حالة مذهبية حادة أكبر وأخطر تهدد كل شيء. الاصطفافات مذهبية. الكل خائف... الكل يشعر أنه يعيش صراع وجود سياسي ومعنوي ومادي وبشري! وإذا تفككت أي دولة من الدول المحيطة وكرت السبحة لن ينجو لبنان من ذلك. ومع حالة الانقسام المذهبي، والقطيعة الخطيرة السائدة، تنهار الدولة، وتتراجع فكرة الدولة والقانون لمصلحة فكرة القوة أوالاستقواء، أو الاستكبار أو المؤسسات المذهبية... ولذلك فإن القول باستقرار في لبنان في ظل توترات حوله غير صحيح. فكيف إذا رصدنا التهديدات الاسرائيلية اليومية لنا أيضاً؟ والمقارنة مع بلجيكا غير صحيحة، لأن هناك دولة ومؤسسات بقيت تعمل، ولأن هناك في تلك الدولة قانوناً بقي الناس يحترمونه، ويتنافسون في ظله. أما في لبنان، فلا قانون يحترم ولا مؤسسات تعمل بشكل سليم ولا إدارة، ولا مساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وأخطر ما في الأمر أننا نتجه مجدداً إذا استمر الوضع على ما هو عليه إلى الاعتياد على غياب فكرة الدولة ومؤسساتها، وبالتالي إلى التسيير الذاتي لشؤوننا في كل المجالات. فهل هذا يطمئن لبنان واللبنانيين؟ بالتأكيد لا. وفي معايشة الأزمات السابقة المشابهة، ينبغي التذكير أنه كان ثمة لعبة سياسية مختلفة بقوانين ومعادلات وظروف مختلفة، وكان ثمة لاعبون سياسيون من طراز رفيع. كان ثمة نكهة لخلافاتهم واتفاقاتهم. كانت اللعبة كبيرة في معظم الأحيان، وكان اللاعبون كباراً. اليوم الوضع مختلف تماماً لأننا نفتقد الكبار، ولأننا أمام لعبة سياسية يمارسها عموماً هواة أو انفعاليون أو متوترون، ولطالما افتقدنا اللاعب السياسي الماهر المحترف الفنان الذي يتقن أصول اللعبة وفن المناورة والكر والفر، والذي يحترم خصمه ويحرص على أن يكون كبيراً وقوياً، لكي يكون للتنافس نكهته وقيمته، ولكي يكون للعبة احترامها. الصورة في لبنان كأن البلد ذاهب نحو مجهول أو نحو معلوم خطير، واللبنانيون لا يريدون الاستفادة من تجاربهم. وما يجري حولهم يعزز آمالهم الفئوية. آمال كل فريق منهم بل غرائز كل فريق منهم. هذا يراهن على تطور هنا يأتي لمصلحته، وذلك يراهن على تطور هناك يراه لمصلحته. وسنصل كالعادة إلى مرحلة لا نجد فيها مصلحة لأحد من اللبنانيين فيما يجري في الداخل أو في المحيط. ولكن إلى أن نصل إلى ذلك سندفع أثماناً كبيرة، ولا نريد أن نتعلم. لقد عشنا أصعب أيام الحروب الداخلية والمحن. ولطالما تألمنا مراراً، عندما كنا نرى أن ثمة فرصة تلوح، ويمكن الاستفادة منها للمصالحة واللقاء والتسوية وإنقاذ البلد، فكانت تطير بسبب تلك الغرائز والآمال التي بنيت عليها وعلى أساس حسابات غير صحيحة. نحن اليوم نعيش الحالة ذاتها. نحن مختلفون على كل شيء. على طابق تملكه وزارة أو إدارة في بناية. وعلى تجهيزات وممتلكات فيه. وعلى تشغيل شبكات هاتفية وعلى الشبكات نفسها وعلى الكهرباء والمياه والإنفاق والتعيينات والعلاقات مع المحيط والمواجهة لإسرائيل، ويكاد لا يجمع شيء بيننا إلا أننا لبنانيون. ولكن إلى أين نحن ذاهبون؟ والى أين هو ذاهب لبنان؟ في مثل هذه الحالة: إلى الفوضى الأخطر من الحرب. وأملي أن أكون مخطئاً. أعتقد أننا اليوم في أمس الحاجة الى اللقاء. إلى تسوية، إلى الهدوء. وهذا يحتاج إلى شجاعة وشجعان. وانتماء وطني أخلاقي إنساني ومسؤولين وطنيين حقيقيين إنسانيين أخلاقيين يغلبون مصلحة البلاد والعباد على أي أمر مهما كانت التنازلات التي يمكن تقديمها أو من الواجب تقديمها. لبنان يواجه أزمة مستقبل ومصير. يحتاج إلى قرار كبير وعقل كبير من ساسة كبار كي لا يقع وينهار وساعتئذ لن يستفيد أحد من اللبنانيين.