كنت أتناول الفطور بفندق بمدينة صلالة العمانية الساحرة قبل سنوات قليلة، جلس بجانبي زوجان هرمان من ألمانيا -هكذا خمنت من لغتهما، قبل أن أتحدث معهما. الزوجان شارفا على التسعين عاماً أو يزيد -ومن يعش ثمانين حولًا لا أبالك يسأم- كما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة. الزوجان بلغا من العمر عتيّاً، وكانت حركتهما بطيئة، معهما آلة تصوير عتيقة، وراحا يصوران بعضهما بعضاً، ثم طلبا مني تصويرهما معاً، فرحبت بطلبهما وتجاذبت معهما أطراف الحديث: أتيا سائحين من ألمانيا ليمضيا أياماً في رحلة إلى عمان التي لم يزوراها من قبل، وليأخذا بعض الصور التذكارية. ودعتهما مستغرباً بإعجاب بيني وبين نفسي: هذان العجوزان يأخذان صوراً تذكارية لرحلتهما ليتذكراها معاً في المستقبل! أي مستقبل يمكن أن يمتد بهما لاستذكار هذه الصور؟ صحيح أن الأعمار بيد الله -ولكنْ هذين العجوزين قد شارفا على نهاية رحلة العمر، كما يشير مظهرهما: احدودب الظهر، وبطؤت الحركة، وحفر الزمن آثاره على محياهما من أي جهة تنظر إليهما، ومع هذا أخذا الصور التذكارية ليستذكرا رحلتهما في المستقبل. يا له من أمل يحدوهما في هذه الرحلة، وبالتقاط الصور التذكارية. هرما وتجاوزا الثمانين حولاً، لكنهما -على عكس زهير بن أبي سلمى- لم يسأما! من يتابع الأخبار يشعر بانقباض وألم وحسرة على ما يجري في دول عربية متعددة، دول تختزل في شخص الرئيس، يموت الشعب ويفنى ويبقى الرئيس! آلاف يموتون ذبحاً وآلاف يهربون من بيوتهم ومن أوطانهم، وكارثة إنسانية واقتصادية وأمنية، لا مياه ولا وقود ولا خدمات وأغلقت المحال والمهم أن يبقى الرئيس. جثث ملقاة في شوارع مدن عربية عريقة، تتعفن جثث البشر، ولا تجد من يودعها الثرى إكراماً لآدميتها، تنهشها الكلاب الضالة، ولا أحد يواري سوءة أخيه الإنسان العربي المسلم، ومدن عربية كاملة خاوية على عروشها: لا حركة ولا أمن ولا حياة، لأن ذلك كله غير مهم، فالمهم أن يبقى الرئيس. أطفال يعذبون حتى الموت على يد جلاوزة الرئيس فداء للرئيس فالمهم أن يعيش الرئيس الذي كتب على شعبه أن يفديه بالروح، وبالدم كي يبقى الرئيس. رعب في عيون أطفال العرب في هذه المدن، وأمهات وزوجات ثكالى يقطعن الحزن بالخوف من المستقبل، ولا بأس فكله "فداء للرئيس". تجاوز الرئيس كافة مفاهيم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية من أجل بقائه رئيساً، رفض كافة المناشدات والمبادرات ليتنحى "فخامته" مع ضمان حياته وثروته، لكن كل ما يجري لا يساوي شيئاً من أجل بقاء الرئيس رئيساً. وسط هذا المشهد الحالك السواد، قاني الاحمرار، وشاحب المظهر، ووسط مشاهد ركام المدن العربية التي تهدم على أهلها من أجل زعامة الرئيس وبقائه في السلطة، تبحث عن إضاءات الأمل، تفتش عن شموع المستقبل، تقلب الأفكار أو تقلبك هي لعل لائحة أمل تلوح لتنتشل روحك الغارقة في كوارث ومآسي بقاء الرئيس في السلطة. تنعش روحك أخبار متقطعة عن إجراء انتخابات في مصر قبل إقرار دستورها، وأخرى في تونس تأجلت للتحضير الجيد لها، ولكن ذلك لا يشفي غليل بحثك عن أمل أكثر تفاؤلًا وتطلعاً للمستقبل، تكاد تفقد الأمل وأنت الذي طالما بشرت به، ونصحت بالتفاؤل علاجاً لكآبة المشهد. تتذكر العجوزين الهرمين الذين التقيتهما قبل سنوات في صلالة، تتساءل: ترى! هل لا يزالان على قيد الحياة؟ تشك في ذلك، لكنهما التقطا صورة للمستقبل، لم يفارق مخيلتي منظرهما مستندين على بعضهما بعضاً بابتسامة رسماها على وجهيهما المليئين بالتجاعيد التي حفرها الزمن، كانا يبتسمان لصورة يأملان أن يتفرجا عليها في المستقبل.