في يوم 25 يناير الماضي دخلت مصر مرحلة جديدة من تاريخها المعاصر، حيث وصل الوضع في ذلك اليوم درجة من الغليان أدت إلى حراك ما تزال تداعياته متواصلة إلى حد الآن، فقد بدأت في ذلك اليوم معركة إرادات مريرة بين النظام والشعب استمرت مدة 18 يوماً من التعبئة، والعنف، والعمل، والأمل، انتهت فصولها أخيراً في يوم 11 فبراير بسقوط النظام، الذي استمر قرابة 30 سنة، لينفتح فجأة أمام العالم صندوق "باندورا" المصري بكل ما فيه من مفاجآت ومفارقات. هذا ما يسجل يومياته ويؤرخ لأحداثه كتاب "مصر التحرير: تشريح ثورة" للصحفيين الفرنسيين "كلود غيبال" و"تانجي سولون"، وهما كاتبان ومراسلان مقيمان في القاهرة منذ عقد ونصف العقد من الزمن. ومعروف عن "غيبال" وهي مراسلة بارزة لعدة جهات إعلامية فرنسية، درايتها الواسعة بمفردات المشهد الداخلي المصري، كما يشترك معها أيضاً الصحفي "تانجي" في ذات الصفات. وقد اعتمد الصحفيان في تأليف كتابهما هذا على نوع من طريقة "المراسل المشارك" الذي يعايش عياناً حدث التحول ويغطيه اعتماداً على تجميع مقابلات وشهادات في طول الشارع وعرضه، وفي وسط ميدان التحرير لأفراد عاديين، من خلال تسجيل معاناتهم اليومية الحاضرة، واستشراف تطلعاتهم وآمالهم المستقبلية. وبسرعة يسجل الكاتبان أن مقدمات تحول 25 يناير كانت بادية للعيان منذ سنوات قريبة حيث تعاظم حجم وزخم وتيرة الاحتجاجات ضد النظام، وقد عرفت أشكالاً سياسية عدة مثل حركة "كفاية" وحركة 6 أبريل والحركة الشبابية الفيسبوكية "كلنا خالد سعيد". كما عبر عن أزمة الثقة بين النظام والشعب، وعن حجم الانفصال بينهما، ودرجة احتقان الشرائح العريضة من الشارع، علو سقف المطالب الاجتماعية والنقابية التي مثلتها إضرابات عمال مصانع المحلة الكبرى وغيرها. ومع مطلع هذا العام، وعلى وقع نجاح تحولات تونس، كان ملفتاً في بداية يناير إقدام العديد من المواطنين المصريين تحديداً على إحراق أنفسهم في تكرار لعمل محمد البوعزيزي مفجر الثورة التونسية. ووقتها رفع كثيرون بسرعة شعاراً أصبح تقليديّاً في السياق الإقليمي مؤداه أن "مصر ليست تونس". ولكن ما أن حل يوم 25 يناير حتى ثبت أن تيار التحول قد ضرب شواطئ النيل فعلاً، ليتكشف المشهد فجأة عن بلد في حالة غليان، يدفعه إلى ذلك احتشاد كل مظاهر الاحتقان تحت السطح وفوقه أيضاً، وهو بلد -للتذكير- يمثل الشباب القاعدة العريضة لهرمه السكاني، حيث تقل أعمار ثلثي سكانه عن 30 سنة. وبسرعة بدأت فصول التجاذب المرير ليرتفع سقف تطلعات الشباب، "صانع" التغيير التاريخي، الذي ظل معظمه يرزح خلال السنوات الماضية تحت طائلة البطالة. وبالنظر إلى الدور المحوري الذي لعبه الشباب المصري في تحقيق التحول يتساءل الكاتبان، في ضوء الاستحقاقات الضاغطة اليوم عما إن كان هذا هذا الشباب سيكون قادراً، في النهاية، على قيادة البلاد والعبور بمخاض تحولها نحو الديمقراطية؟ هذا مع أن مرحلة التحول الراهنة نفسها تبدو معقدة بشكل لا يوصف: فقد ترك النظام السابق وراءه ما يشبه حالة الفراغ السياسي السحيق، حيث لا تكاد توجد قوى سياسية منظمة غير الجماعات الإسلامية، التي يتساءل عديد من المراقبين الآن إن كانت ستصبح هي الجهة المستفيدة الوحيدة من فرصة التحولات، أم أن قوى المجتمع المدني التي طالما تعرضت للتهميش والتهشيم والاستهداف، ستدب فيها الحياة هي أيضاً في آخر لحظة؟ ثم ما هو دور الجيش، من الآن فصاعداً، في مسار ومستقبل المشهد السياسي المصري؟ وبغض النظر عن الإجابات المقترحة والممكنة على مثل هذه الأسئلة فإن مؤلفي الكتاب لا يخفيان تفاؤلهما بمستقبل التحول الديمقراطي في أرض الكنانة. ولذا يحمل العديد من فصول الكتاب عناوين- شعارات، لا يخفي بعضها الحماس الواضح الذي يبديه المؤلفان لحدث التحول المصري، ومنها عنوان الفصل الأول: "18 يوماً من الربيع في فصل الشتاء" في إشارة كرونولوجية إلى مدة أيام التجاذب بين متظاهري ميدان التحرير والنظام الذي استمر قرابة ثلاثة أسابيع إلى أن انتصر الميدان في النهاية، وتمكن نشطاؤه من إطلاق تباشير جمهوريتهم الجديدة. وفي فصل آخر عن "جيل الفيسبوك" يتوقف الكاتبان عند الدور المثير المنسوب لمواقع التواصل الاجتماعي، والشرائح الشابة الرقمية من المجتمع المصري، في إنجاح حدث التحول، الذي فاجأ حتى أدق أجهزة الاستخبارات العالمية، وأعمق الخبراء معرفة بالشأن المصري، وهنا أيضاً كان احتفال الكاتبين مزدوجاً بالجيل الشاب، وخاصة منه الجيل الرقمي ومن ورائه منجز الفيسبوك بصفة عامة. ولعل آخر ما يمكن قوله على طريقة هذا الكتاب هو أن الصحفيين الفرنسيين كانا أمينين فيه لتقليد ثقافي وإعلامي سارٍ في بلادهما هو ما عبر عنه الأديب الوجودي الفرنسي الشهير "ألبير كامو" بمقولته الشهيرة: "إن الصحفي هو مؤرخ اللحظة". فقد سجلا بين جنبات كتابهما تأريخاً دقيقاً جمع بين شمولية الرؤية لحدث 25 يناير في مجمله وفي سياقه التاريخي والسياسي وبين الغوص في أدق مفردات ونثريات المشهد المصري الراهن، على نحو يتيح للقارئ فرصة النظر إلى "أم الدنيا" من منظارين "ماكرو" كبير، و"مايكرو" صغير، في الوقت نفسه. وبهذه النظرة المزدوجة تتاح للقارئ رؤية المشهد اليوم كما هو، بما فيه من زحام الشعارات، وأوهام الخداع البصري، وإشراقات الفجر الصادق. حسن ولد المختار الكتاب: مصر التحرير... تشريح ثورة المؤلفان: كلود غيبال وتانجي سولون الناشر: سوي تاريخ النشر: 2011