لم تستطع تركيا رغم التقدم الذي حققته في العقود الأخيرة والانطلاقة الديمقراطية التي أتاحت لحزب إسلامي الصعود إلى السلطة، الخروج من جلباب كمال أتاتورك الضيق إلى رحابة الفكر النقدي تجاهه. فمازالت صوره تعلو الجدران، ومازل حضوره بعد سنوات طويلة من الغياب مستمراً في أفئدة وعقول الأتراك، وأي محاولة لانتقاد إرثه، أو دراسته موضوعياً تتعرض لاستهجان شديد من قبل الأتراك العامة منهم والنخبة. لكن الكتاب الذي نعرضه لمؤلفه "سكرو هاني أوغلو" بعنوان "أتاتورك: سيرة فكرية"، يسعى إلى التحرر ولو قليلًا من صورة الزعيم صانع التاريخ وأبي الأتراك في محاولة للتطرق إلى جوانب من حياته الفكرية ووضعه في سياقه التاريخي الذي ولد لنا الشخصية، وليس العكس كما يصر على ذلك الأتراك، إذ من الصعب كما يعترف المؤلف نفسه في مقدمة الكتاب نزع هالة القدسية التي تحيط بالزعيم أتاتورك، أو النظر إلى مساره الفكري والتاريخي بعيداً عن الأساطير التي تحولت بفعل توالي السنوات وتكريس قيمته إلى رمز لا يكاد يطغى على الحياة. ويشرح الكاتب هذا التعلق الشديد الذي يبديه الأتراك تجاه قائدهم والتقديس المبالغ فيه وغير المبني على حقائق تاريخية بالإشارة إلى مجموعة من الأقوال المنسوبة إليه، والتي تطال جميع مناحي الحياة، تلك الأقوال التي تَبين بعد مراجعات عديدة أنها مزيفة ومغلوطة اختُلقت لتحقيق أهداف مجموعات خاصة. وهكذا يقول الكاتب نجد في تركيا أن كل هيئة مهنية تنسب مقولة ما تمتدحها جزاء إلى "أتاتورك"، فمثلا يفخر سائقو التاكسي في المدن التركية بأن أتاتورك "قال "إن السائقين الأتراك يملكون أنبل المشاعر"، أو ما تدعيه شركات الطيران التركية من عبارة "المستقبل في السماء" التي تظهر في أدبياتها هي من أقوال الزعيم الخالدة. ورغم تأليف المئات من الكتب التركية التي تتعقب مسار أتاتورك، فإنها في المجمل تخلت عن الدراسة الموضوعية والتاريخية وتحولت إلى ما يشبه مرثيات للتأبين تُظهر الزعيم على أنه صاحب الحكمة والعلم الغزير الذي لم يترك مجالًا دون الحديث عنه والتطرق إليه، بل إن العديد من كتاب المقالات والنخب المتعلمة وظفت أتاتورك بحق أو غير حق في تبرير وجهات نظرها سواء تعلق بمعادة الشيوعية أو بغيرها، بل إن البعض أدعى ذكر أتاتورك في القرآن، وقد درجت الرواية التاريخية الرسمية في تركيا على رسم صورة أتاتورك الزعيم منذ ولادته، وأنه صانع التاريخ وليس صنيعة ظروف تاريخية وسياسية معينة كانت سائدة في عصره، أو أنه تأثر بأفكار غيره من المفكرين شأنه في ذلك شأن البشر جميعاً، وعلى سبيل المثال مازال هناك في تركيا رغم الحقائق التاريخية المغايرة من يعتقد أن أتاتورك هو مهندس ثورة "تركيا الفتاة" في العام 1908، بينما الوثائق تشير إلى دور جانبي قام به. وفي بعض الروايات التاريخية الأخرى التي تقدس أتاتورك، قالت إن الزعيم حذر الجنرال الأميركي "دوجلاس ماكارثير" في لقاء معه في العام 1932 من حرب عالمية وشيكة، والحال كما تثبت ذلك الوثائق أنه استبعد في حديثه مع الجنرال الأميركي اندلاع حرب خلال العشر سنوات اللاحقة، هذه الأساطير والعديد غيرها يسعى الكاتب إلى دحضها لوضع أتاتورك في إطاره الصحيح، ليس رغبة منه في التعريض برموز الشعب التركي الذي هو واحد منه، بل فقط قياما بدوره كمؤرخ يملي عليه واجبه دراسة الأحداث والشخصيات في سياقها التاريخي الذي ساهمت في ظهورها، وحتى يقرأ الأتراك تاريخهم بعيداً عن الأساطير والأوهام. ولتحقيق ذلك رجع المؤلف إلى النصوص الأصلية التي كتبها أتاتورك في بدايته بحروف عربية وانكب على قراءتها وتحليلها، وهي وثائق كثيرة تتوزع بين المذكرات الخاصة والخطب واللقاءات التي تعتزم الحكومة التركية تجميعها وحفظها إما في المتاحف الخاصة، أو نشرها في كتب يطلع عليها الجمهور بعد تحريرها وتحويلها إلى الحروف اللاتينية كما تكتب اللغة التركية اليوم، وبالإضافة إلى ذلك اعتمد المؤلف على نسخة منقحة من مذكرات أتاتورك الخاصة التي نشرتها ابنته "بالتبني"، وهنا يشير المؤلف إلى الصعوبات التي واجهها في جمع الوثائق بسبب إمساك جهات خاصة بها سواء في الجيش، أو غيره وعدم رغبة الدولة التركية الإفراج عن البعض منها التي مازالت تدرجها في خانة السرية، لا سيما أوراق زوجته الخاصة التي حازتها الدولة قبل خمسة وعشرين عاماً وفشلت جميع المحاولات في عرضها على الجمهور بعدما نُقلت في العام 2005 إلى الجمعية التاريخية التركية... كل هذا المنع والتضييق على الوثائق ساهم، يقول الكاتب، في انتشار الأوهام حول أتاتورك باعتباره شخصية فوق التاريخ، وهو ما يسعى المؤلف من خلال الكتاب إلى تبديده بإعادة رسم صورة أتاتورك الذي ليس هو سوى ابن لبيئته تأثر بما كان رائجاً في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين واطلع على الفكر القومي الأوروبي وأخذ منه، وهو في هذا السياق شخصية تاريخية لم يأت بجديد، بل فقط دفع مع غيره عجلة التاريخ المتحركة أصلا بسقوط السلطنة العثمانية المريضة وقيام تركيا الحديثة، يضاف إلى ذلك فكرة جديدة يطرحها المؤلف تقول إن أتاتورك، وخلافاً لما هو رائج في الدراسات التاريخية الرسمية، لم يحدث قطيعة مع النظام العثماني بل استمر هذا الأخير ثاوياً في تلافيف العقل التركي حتى وقتنا الحالي. زهير الكساب الكتاب: أتاتورك: سيرة فكرية المؤلف: سكرو هاني أوغلو الناشر: جامعة برينستون تاريخ النشر: 2011