إن العلة الرئيسية في مشروع النهضة ليس فقط تأثير العوامل الخارجية ودورها المؤثر في إعاقة هذا المشروع بكل الوسائل وإيقاف حالة التطور والتقدم، بل أيضاً في تأثير العامل الداخلي، وأعني بذلك دورنا نحن العرب والمسلمين من خلال هذا العامل في تعطيل مشروع النهضة من الداخل، وجعله غير قادر على الاندفاع بقوة إلى الأمام لتحقيق الهدف المنشود، الذي تريده الأمة، حيث إنه إلى جانب الصراعات الداخلية التي حدثت في الوطن العربي والإسلامي على مدى الخمسة عقود الماضية، هناك إشكالية الخلل الذي تعاني منه بنية المجتمع العربي سواء كان هذا الخلل اجتماعيّاً أو اقتصاديّاً أو سياسيّاً أو ثقافيّاً أو في مجال التعليم أو حتى نفسيّاً. فمثلاً الملاحظة المهمة عند معظم الباحثين وغالبية الدراسات التي اختصت بعلم الحضارة والنهضة تدعو لأن يعيد العرب والمسلمون قراءة ذاتهم من الداخل قراءة نقدية علمية ومنهجية عميقة، وأن يتحرر الذهن العربي المسلم من حالة التبعية التي أبقت العالم العربي والإسلامي أسيراً لها على مدى العقود الماضية، غير قادر على تحقيق النهضة مثل الآخرين. إن الثورة الصناعية التي أعطت الغرب القوة وجعلته يمتلك حضارة تقنية عالية لم تكن صدفة أو مجرد عملية نقل واستيراد وتقليد كما نفعل نحن العرب، بل إنها تشكلت وفق آليات علمية ومنهجية مدروسة، وأهمها حالة الاستكشاف من خلال ثورتين وعلى مدى ثلاثة قرون، شكلت الأولى -كما يبين ذلك د. مصطفى حجازي في كتابه "الإنسان المهدور"- العقل العلمي الذي عمل على بناء مجتمع المؤسسات، وشكلت الثانية التي تمثلت في فلسفة العلم والعقل الذي أنتج وما زال، التكنولوجيا في مختلف المجالات. وبدون هذا التحول الفكري الواسع والترابط بين تقدم التقنية وتقدم فلسفة العلم، ما كان للثورة الصناعية أن تحدث وما كان للتقنية أن تنطلق، وأن يحقق الغرب هذا المستوى من القوة. والمشكلة هنا أن هذا الدرس لم يستوعبه عالمنا العربي إلى الآن، حيث إن العرب -حسب حجازي- يظنون أن التقدم هو مجرد لعبة تقنية وبإمكانهم التصنيع من خلال استيراد التكنولوجيا وحدها وبدون الاستثمار في بناء المعرفة العلمية التي تتعلق بهذه التقنية واستيعاب فلسفة العلم وصولاً إلى المشاركة في إنتاجها، ولهذا لم يؤد استيراد التقنية إلى توطينها وتطويرها أو توليدها على رغم ما أنفق عليها خلال العقود الأخيرة، وكل ما فعله هذا الاستيراد هو مجرد زيادة القدرة الإنتاجية دون أن يعمل الفكر على استيعاب أسسها الفلسفية ومعرفة سر صناعتها. وهذا الأمر ينطبق أيضاً على استيراد العلوم الإنسانية وعلى الأخص مناهج التعليم، ولذلك فقد ظل العالم العربي والإسلامي في تبعية مستمرة، ليست لديه القدرة على النهوض والتطوير والإبداع والتجديد. ومما ساعد على ذلك الإفرازات النفسية التي علقت بالحالة العربية وما تحمله هذه الإفرازات من أمراض. فمثلاً هجرة الكفاءات العربية التي تسمى "نزيف العقول" هي إحدى إفرازات هذه الحالة، وحتى ندرك أهمية ذلك وخطورة تأثيره على مشروع النهضة، يكفينا الاطلاع على الدراسات والإحصائيات التي تتحدث عن ظاهرة "هجرة العقول العربية"، حيث يشرح د. راغب السجاني ذلك إحصائيّاً في كتابه "العالم وبناء الأمم"، فيبين أن 59 في المئة من الأطباء العرب والمسلمين يهاجرون إلى أميركا وأوروبا هجرة نهائية، وأن 23 في المئة من المهندسين و15 في المئة من العلماء من مجموعة الكفاءات العربية يهاجرون إلى تلك الدول وأن 54 في المئة من الطلاب العرب الذين يسافرون للدراسة في الغرب لا يعودون إلى بلادهم، ووصل عدد العرب من حملة الشهادات العليا الذين استقروا في الغرب حتى سنة 2000 إلى 450 ألف عربي. والملاحظة المهمة هنا هي أن هناك ارتباطاً قويّاً بين ارتفاع نسبة نزيف العقول من الوطن العربي إلى الخارج والحروب والفتن التي تحدث في داخله وخاصة أن هذا النزيف يخدم المشروع الغربي ويقوي رصيد حضارته، فاختراع وإبداع العلماء العرب يمثل رصيداً قويّاً لنهضة الغرب وخسارة لمشروع النهضة العربية.