يبوس، أوشاميم، هيروساليما، ايلياكابيتولينا، جروسالم، بيت المقدس، مدينة السلام، زهرة المدائن.. كلها أسماء لمكان واحد: لا تموت الأحلام فيه، هو القدس. تلك المدينة القريبة البعيدة التي تجمعنا بالقلب والهدف النبيل والمشاعر الصادقة لإنقاذها. جميلة هي وساحرة تقبع في أفئدة قلوب المؤمنين، مسلمين ومسيحيين. هذه القدس أتعلمون حالها اليوم: مساعي حثيثة لتغيير هوية المسجد الأقصى والبلدة القديمة عبر حفريات هادفة لبناء مدينة "تاريخية" يهودية أسفل المسجد الأقصى ومحيطه، ومن خلال بناء الكُنس والمتاحف، فضلاً عن محاولة نزع الحصرية الإسلامية للأقصى وتحويله (في "أحسن" الترتيبات الصهيونية) من معلم إسلامي إلى موقع ديني مشترك مفتوح أمام أتباع الديانات كافة. إلى ذلك، محاولتها تغيير الطابع السكاني للمنطقة المحيطة بالأقصى والبلدة القديمة إلى طابع يهودي، وتهجير سكانها العرب إلى الأطراف. كما يشتمل هذا المسار على تسويق القدس سياحياً كـ"عاصمة يهودية" من خلال المهرجانات والاحتفالات وتشجيع السياحة بهدف البحث عن الآثار وبناء المتاحف اليهودية في سائر أرجاء المدينة، ونقل مؤسسات "دولة إسرائيل" المركزية إلى المدينة، وتشجيع بناء المصانع ومراكز الشركات عالية التقنية في مركز المدينة لجذب اليد العاملة، مع جدار فصل عنصري، ومستعمرات/ "مستوطنات" عن اليمين والشمال. ورغم أن الحديث عن القدس لا يحتاج إلى سبب، إلا أن قراءة كتاب الدكتورة عايدة النجار "القدس والبنت الشلبية" (أي الجميلة المزيونة) جعلني "أعود" إلى القدس (مهد مولدي وطفولتي) رغم تسارع تهويد الزمان والمكان والمقدسات وباطن الأرض وما فوقها! ورغم "بعد" المسافة الجغرافية بيننا الآن، ورغم المستعمرات/ "المستوطنات" وجدار الفصل العنصري والحواجز التي تحيط بها، جعلتني (عايدة) استذكر أهلنا الصامدين هناك، القابضين على الجمر ليلاً نهاراً مدافعون عنها. وفضلا عن الجهد الكبير المتميز الذي بذلته المؤلفة، وبعيداً عن دغدغتها لمشاعرنا نحن أبناء القدس، فإن مضمون "القدس والبنت الشلبية" يسرد العلاقة الجدلية بين الروح والمكان وتحديداً المدينة التي تسكننا ولا نسكنها. فعبر تناولها لتفاصيل الحياة اليومية في القدس إبان الانتداب البريطاني، نجحت (عايدة) في وصف المدينة والمرأة الفلسطينية وحياتها اليومية. إذن، هو كتاب يحتفي بالقدس عبر احتفائه بالمرأة الفلسطينية بشكل عام، وبالمرأة المقدسية على وجه الخصوص، لتوضيح إسهاماتها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، ولتصل بنا إلى الخاتمة المقنعة بلا شك، وهي تأكيد عروبة القدس، وتكذيب الادعاءات الصهيونية التي تزعم إن فلسطين بقيت أرضاً صحراوية مليئة بالمستنقعات حتى جاء اليهود وجعلوا منها جنة خضراء، وإن فلسطين "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"! هذه "البنت الشلبية"، التي برزت في العمل الوطني والاجتماعي العام، تماماً كما برزت في الشعر والقصة القصيرة والصحافة والتربية والمسرح والموسيقى والغناء، نطوف معها في فصول الكتاب متجولين في أحياء القدس كي نتعرف على تقاليد أهلها وحياتها ومفارقاتها. كذلك، ساعدت صور الكتاب في إبراز بعده التوثيقي مبرزة المشهد العمراني في القدس والرجال والنساء والأطفال أصحاب الصلة بالمدينة، وبالأزياء الشعبية والحديثة. ولقد كان أمراً لافتاً المشاعر التي أغدقتها (عايدة) على كل من ورد في الكتاب بحيث شعر كل من قرأه بأنه يعرف هؤلاء جميعا وإن لم يلتقهم من قبل. وتقول (عايدة) في مقدمة روايتها المصورة لمفاصل الحياة في زهرة المدائن: "للقدس مكانة خاصة في التاريخ، وعلى مر العصور، ولها منزلة في الوجدان ليس لأهلها الفلسطينيين فحسب بل للكثيرين من أتباع الديانات السماوية في العالم الذين حجوا إليها أو بقوا فيها، أو كتبوا عنها. وللقدس مكانة خاصة لمن ولد فيها من "المقادسة" أو زارها أو تعلم في مدارسها أو تجول في شوارعها ورسم صوراً دائمة للمكان وناسه في الذاكرة". "المقادسة": يكفي الإنسان فخراً أن يكون مقدسي المولد، وأنا منهم. وعند قراءتي لهذه الفقرة من المقدمة، عدت بالذاكرة إلى 18 نوفمبر 1993، حين اتصل بي أخي الشهيد فيصل الحسيني (الذي "فارقنا" قبل عشر سنوات لكن سكناه باقية في قلوبنا) وأعلمني بتحديد ذلك اليوم، المصادف الخميس، موعداً لدخولي إلى فلسطين "شرط" أن أحضر معي "وفداً" قوامه ثمانية من المستثمرين الفلسطينيين للمشاركة في "ورشة عمل" تحضر لعقد "مؤتمر المستثمرين الفلسطينيين الأول" لاحقا. آه كم هو قاتل أن تكون "زائراً" لبلدك أو "سائحاً" في وطنك! وقبل كل ذلك، كم هو قاتل أن تنتظر وصول "تصريح" لك "بالسفر" إلى بلدك. وفقط كي تكون مجرد "سائح" وسط أهلك وفي وطنك! وفي خضم بحثي عن ذكرياتي في القدس في تلافيف خلايا دماغي، ومع وصولي إلى القدس، وجدتهم يقولون لي، وأنا ابن القدس: أنت الآن في القدس! آنذاك، قبل أن يضج في جدران جمجمتي هول المفاجأة، وجدتني أعلم/ أتعلم – لا فرق – أن القدس قد امتدت بقدرة "قادر" إسرائيلي فأصبحت تشتمل على أراضٍ واسعة محيطة يقدرها البعض بربع مجموع مساحة الضفة الغربية بكاملها! وحين سألت يومها: أي حي من الأحياء هذا؟ يأتيك الجواب: إنه "مستوطنة" (مستعمرة) كذا! ثم تتابع المسير عبر "مستوطنة" ثانية وثالثة، فينخدش ناظراك ويسيل الضوء منهما، فتجد نفسك في عتمة ظلام حالك! ذلك كان في نهاية 1993، أما اليوم فالظلام في القدس أكثر حلكة! هذه القدس الجديدة يا (عايدة)، القدس التي لا تعرفينها عن كثب. أما القدس التي خبرت وجاءت في كتابك، فهي كما وصفت بالضبط رغم تغييرات الزمن. لكنك ستفاجئين بغياب الساحات التي كانت ساحات أيام كنا أطفالاً وأصبحت اليوم مباني تلتصق بمبانٍ وكأنها تحتمي ببعضها من الاحتلال. طبعاً، تاريخياً، أكدت تجربة القدس أن الحق العربي فيها لن يضيع مهما طال أمد الاحتلال. وهذه هي الحكمة المستفادة من توالي العهود والأيام ما دام صاحب الحق يقاتل، خاصة وأنه حق مشروع كفلته كل الأديان والقوانين والأعراف. ودوماً، كان للقدس رب يحميها. وللقدس أيضاً أهلها، وأحباؤها، ما يزالون يدافعون عنها، رغم التقصير السياسي العربي والإسلامي والذي هو في خط مواز – ولنعترف - لتقصير الشارع السياسي العربي والإسلامي.