بدايةً، لابدّ من تسجيل ملاحظة هي أن معظم المتحمّسين للمساهمة في الاحتجاجات في سوريا سبق أن نالهم - بشكلٍ مباشر أو غير مباشر- نصيب من الضرر من مفاعيل السلطة المختلفة، فمثلاً عانى الأكراد منذ عام 2004 من وطأة الاعتقالات ومنع النّخب من السفر. ولو تمعنّا في مسار الاحتجاجات لرأينا كيف تتطوّر من منطقةٍ إلى أخرى وغالبيّة هذه المناطق تعتبر مناطق مهمّشة سياسيّاً وخدميّاً. ولا نستغرب أن تشكّل هذه المناطق اليوم حاضنة للتّغيير وقد تكون أيضاً نواةً لبناء نظامٍ سياسيٍّ وثقافيّ جديدٍ مختلف إلى حدٍّ بعيد عن النّظام السّائد، وهنا لا أقصد فقط النّظام السّياسيّ الرّسميّ، بل أقصد الحالة السّياسيّة والثّقافيّة والحراكيّة قبل 15 آذار (مارس)، إذ يبدو أنّ التّغيير سيشمل بنية التّفكير السّياسيّ للحكم وللمعارضة على حدٍّ سواء، فالشّعار -أو الخطاب- الّذي تحمله السّلطة هو نفسه الّذي رفعته طيلة السّنوات الماضية حتّى على مستوى المفردات المستخدمة. والمعارضة ليست أيضاً بريئة من ممارسة ذات السلوك، إذ تعاني هي الأخرى من أزمة تغييرٍ في بنية نظامها وتركيبتها. ولذا لا نستغرب أمرين كانا عصيّين على مزاج الطّبقة السّياسيّة، أولهما: العفو العام، وطيّ صفحة الاعتقالات السّياسيّة. والثّاني: ضرورة الجلوس على طاولة الحوار مع المعارضة الدّيمقراطيّة والاعتراف بها، والشّروع في فتح أفاقٍ جديدةٍ أمام السّوريين جميعاً الذين لطالما نادوا بالتغيير. والحقَّ أنّ تحقّق هذين الأمرين سيساهم في بلورة واقعٍ سياسيٍّ جديد، ويخفّف من مستوى الاحتقان الذي صار وقوداً للتّضحية، وحتّى لو لم يعبّرا عن كلّ مطالب المحتجّين إلّا أنّهما الآن ركيزتان مهمتان لمرحلةٍ يمكن التّأسيس عليها. إنّ مطالب الشّباب لن تقف عند حدود الإعلان عن الإصلاحات، وإنّما تسعى لتغييرٍ جذريّ للنّمط الفكريّ والمعرفيّ للحالة السّياسيّة والثّقافيّة السّوريّة حتى تتيقّن هذه الشّريحة من أنّ ما يجري يلامس فعلاً تطلعاتها وطموحاتها، وبمعنى آخر فإنّ حركة الشّباب لن يسكتها الآن رفع حالة الطّوارئ، ولن يكفيها مجرد إطلاق وعود ببناء نظام يعتمد على التداول السلمي والتعددية الحزبية. ولا نستغرب أنّ كثيراً من الشّباب المتحمّسين للتّغيير لا تهمّهم المواقف ولا القراءات السّياسيّة، ولا ما تقول السّياسات الغربيّة، ولا يهتمّ الشباب بجامعة الدّول العربيّة وموقفها غير المعلن من تطوّرات الحراك الشّبابيّ والشّعبي السّوري، كما لا يهمّه موقع سوريا الإقليمي وما إن كان هذا الموقع سيشكّل عقبة أمام تحقيق حلمه، أم سيشكل عاملاً مساعداً لانتصاره. إن الشّباب، وهو ماكينة الحراك الشّعبي، لا يمكن إيقافه عند حدٍّ معيّن، إلّا بتحقيق فسحةٍ من الحرّيّة، ولعلّ ذلك يتمّ بفتح آفاق دولة القانون والإعلام الحرّ، وإطلاق الحرّيّات العامّة وتنظيم التيارات السياسية، مع إتاحة المجال للعدالة السياسية لتأخذ مجراها في مفاصل الدولة، وهذا هو همّ الشريحة الواسعة من المجتمع. ونعتقد أنّه ما زال بإمكان مؤسسة الرئاسة أن تلعب دور العامل المشترك للتّغيير، حتّى أنّه قد لا يعترض أي مكوّنٍ للحراك على أن تقود المؤسسة الرّئاسيّة هذا التّغيير عبر التّشاور مع الآخر المعارض، ولعلّ مما يؤكّد هذه الفكرة مجموعة البيانات والمبادرات الوطنيّة سواء تلك الصادرة عن "المبادرة الوطنيّة للتغيير"، أو مشروع الأوراق للمثقفين السّوريين، عن الأكراد أيضاً، أو المعارضة وخصوصاً المنضوية تحت لواء إعلان دمشق. وعلى رغم تعقيد مشهد الحراك الشبابي السوري وخياراته بعد ازدياد عدد الضحايا، وتوسّع نطاق الاحتجاجات عموديّاً وأفقيّاً وعلى المستويين الجغرافيّ و السّكانيّ، وتفضيل السّلطة للحلّ الأمنيّ على الحلّ السّياسيّ للأزمة الوطنيّة، إلا أنّ الحوار الوطنيّ مازال يشكل مخرجاً لهذه الأزمة. بيد أنّه لم يلق آذاناً صاغيةً من قبل السلطات، وهي الأحوج إليه أكثر من أيّ وقتٍ مضى. فاروق حجي مصطفى كاتب سوري ينشر بالتعاون مع مشروع "منبر الحرية"