ليست طاقة النفط والغاز كل شيء في الأحداث الجارية في المنطقة والعالم، لكنها الشيء الذي يحرك كل شيء. الفصل الأول من المسلسل الدامي يعرضه كتاب "الوقود على النار"، الذي يتناول حسب عنوانه الثانوي "النفط والسياسات في العراق المحتل". وأكثر ما يدهش المؤلف أن "النفط الذي يقع في قلب ما جرى من أحداث خلال ثماني سنوات منذ بدء قصف بغداد، نادراً ما يُذكر. ومعظم ما سمعناه هو العنف. لكن ماذا عن النفط؟". صبُّ الزيت على نار المنطقة يصبُّ النار في نهاية المطاف على الزيت، والنار كما ترينا أحداث العراق منذ الغزو تواصل الاشتعال في الاتجاهين. وليس المهم في البحث عن دور النفط أن نكتشف أسراراً خفيت على الجميع، بل أن نرى ما رآه الملايين، ولم تره أجهزة الإعلام. وهل غير "العين المليونية" للناس أنزلتهم في شتاء عام 2003 إلى شوارع العواصم العالمية رافعين لافتات "لا لحرب النفط على العراق"؟ هذه "العين القوية" تلّبست مؤلف الكتاب، الباحث الإنجليزي "غريغ موتيت" الذي صادف وجوده قرب مقر شركة النفط البريطانية الهولندية "تشيل" لحظة انضمامه إلى مظاهرة لندن المليونية. وانكّب خلال الأسابيع اللاحقة على قراءة المجلات المتخصصة بحثاً عمّا تفكر به شركات النفط. وأدهشه أنها "تروي قصة مختلفة تماماً عمّا نقرأه في الصحف ونراه على شاشات التلفزيون". مجلة "أموال النفط الدولية" مثلاً قالت: "الحرب في العراق قد تكون قسّمت سياسيي العالم، لكنها وحدّت مدراء الشركات النفطية؛ كل واحد منهم يفكر كيف ومتى تفتح للمشاركة الأجنبية احتياطيات العراق النفطية التي تُقدّر بأكثر من 112 مليار برميل المعروفة، من دون ذكر كميات هائلة محتمل استكشافها". وبين مئات الوثائق التي حصل عليها المؤلف، وثيقة تخص الاستراتيجية البريطانية وتتوقع أن "يكون القطاع النفطي العراقي المحدّثُ والشفافُ والمرحِبُ بالاستثمارات، نموذجاً قوياً لبلدان الشرق الأوسط الأخرى المنتجة للنفط والغاز". بكلمات أخرى، حسب المؤلف "فالعراق مجرد البداية، والهدف هو إعادة تشكيل صناعة النفط في المنطقة بالكامل". وحرب العراق، كما يراها ديفيد كنغ، المستشار العلمي السابق للحكومة البريطانية هي "الأولى من سلسلة حروب على الموارد ستميز العقود القادمة". والغزاة، كما يقول المؤلف لم يعودوا كما في الماضي يحملون على سفنهم الذهب المنهوب من العالم الجديد. فـ"الجائزة الأثمن يمكن حملها في حقيبة يدوية، أو في كومبيوتر محمول؛ وهي عقود، وقوانين، وسياسات تضمن تدفق الموارد النفطية لعشرات الأعوام القادمة". وأثمن القوانين في محافظ الغزاة "قانون النفط" الذي لم يقره برلمان العراق حتى الآن. بدأ التخطيط لهذا القانون "فريق تخطيط الهياكل الارتكازية للنفط" الذي ضمّ ممثلي وزارات الدفاع، والخارجية، والطاقة، والـ"سي آي أيه". وقبيل إعلان الرئيس بوش النصر، وصل بغداد كبير مستشاري النفط في إدارة الاحتلال، قبل أيام من وصول بول بريمر. كان هذا المستشار، واسمه "فيل كارول"، رئيساً سابقاً لشركة "شيل" الأميركية، وفي أول زيارة له إلى غرفة السيطرة في "مصفى الدورة" أعلن دهشته من أنها بدت كمتحف. "عجيب كيف استطاع المهندسون العراقيون تشغيل النظام"؟.. وقال لمؤلف الكتاب إنه "يكن للعراقيين الحب والإعجاب أكثر من أي جماعة في الشرق الأوسط". وسرعان ما استهدفت أكبر عملية اجتثاث شهدتها صناعة النفط في أي مكان من العالم، جماعة المهندسين المدهشة! مشاهد مؤثرة لن تنمحي من ذاكرة تاريخ الصناعة يرويها الكتاب نقلاً عن ضحايا الاجتثاث الذي استغنى به وزير النفط إبراهيم بحر العلوم عن 17 مديراًٍ عاماً من مجموع المدراء العامين البالغ عددهم 24، ومئات الإداريين والفنيين. ويلتقط المؤلف أسرار بذور الاجتثاث، التي زرعها تحالف الاحتلال والطائفية، في هفوة لسان الجنرال سانشيز، قائد قوات التحالف السابق: "الخطر كما نراه في العلاقة التي يمكن أن تقوم على أدنى المستويات بين السنة والشيعة، وعلينا العمل بشكل قوي جداً لإبقائها على مستوى تكتيكي"! وفي فصل عنوانه "غزو الجلبية" نسبة إلى أحمد الجلبي رئيس "هيئة الاجتثاث"، يرصد المؤلف كيف هدم الاجتثاث والمحاصصة الطائفية الكيان الهندسي والإداري لمؤسسات الدولة: "لقد كان الهدف بناء خلل دائم في كيان الدولة". ومع أن الكتاب صدر قبيل "الربيع العربي"، فإنه يلقي الضوء على خلفيات العمليات الحالية لحلف "الناتو" الذي كان قد أعلن عام 2008 عزمه على "لعب دور في تأمين إمدادات الطاقة، بما في ذلك حماية الهياكل الارتكازية الهامة وبرمجة استقرارها". وأعقبه إعلان أمين عام الحلف أن أمن الطاقة "يذهب أبعد من حماية ناقلات النفط، وذلك بالمساعدة على تنسيق أفعال الدول المستوردة للطاقة". فمن دون هذا التنسيق "لن يمكن لمشتري الطاقة الحصول على أفضل الصفقات التجارية، أو تعظيم قدراتهم التفاوضية". هذه الانتهاكات لقوانين السلم والحرب والتجارة الدولية، كانت تسمى "دبلوماسية المدافع" في عصر الاستعمار، الذي ترنح كالشبح الميت في تقلبات تكتيك واستراتيجية وأمزجة الاحتلال الأميركي للعراق، بين الحرب الخاطفة، والاحتلال الدائم، واستحداث المحاصصة، والتراجع عنها، ووضع قوانين الخصخصة، واكتشاف مخاطرها، والإصرار على الانتخابات البرلمانية، ومحاولة إلغائها... وقبل كل شيء تقلبات الموقف من النفط، والتي أرخ لها المؤلف منذ غزو بريطانيا البصرة عام 1915، إلى أسواق الأسهم والمال العالمية الحالية. وهذا ما انتهت إليه العبقرية الاستراتيجية الغربية؛ تحويل الطاقة الساحرة التي تشغل ملايين العربات والقطارات والبواخر والطائرات، وتضيء المدن، وتحرك آلة الصناعة والزراعة والاتصالات... إلى أوراق في لعبة قمار! ويعتقد المؤلف أن الثقافة السياسية للعراق، وليس ثقافة السياسيين العراقيين، أحذق من مثيلاتها في الولايات المتحدة وبريطانيا. ويذكر أن صديقة صحفية حذرته مرة: "إذا وقعت في حب العراق، فمكتوب عليك أن يتحطم قلبك كل يوم". ويقول إنه وافقها على ذلك في حينه، لكن عندما يلقي نظرة استعادية يعتقد أنها كانت على حق جزئياً. فامتلاك العديد من الأصدقاء العراقيين وتعمق العلاقات بالبلد لم يعرّضه لليأس وحده، بل للأمل أيضاً. و"في أكثر اللحظات حلكة، عندما انهارت مؤسسات المجتمع العراقي عامي 2006 و2007 وبدا كأن المذابح الطائفية ستستمر عبر الأجيال، كان وجودي بين العراقيين يرفع دائماً معنوياتي". وعندما سألتُه هاتفياً عن هوية "الصحفية الصديقة"، قال إنها بريطانية. ولولا ضيق الإنجليز التقليدي بالأسئلة الشخصية، لسألته ما إن كانت بريطانية عراقية، فمن يُعلّم المحبة المستميتة كمُحطِّمات القلوب العراقيات؟!