أصبح نظام صدّام مضرباً للأمثال بعد أن صار في ذمة التاريخ، وبعد سنوات قليلة قد يُضرب المثل بأنظمة أخرى تدفع الآن الفواتير. فقد كان عراق صدّام يراكم فواتير الظلم، وبعد سقوطه بدأ الجميع في دفع الفواتير، كلٌ حسب الفاتورة المرصودة في ذمته، وكان أول من دفع صدام نفسه، دفع فاتورة احتلال الكويت باحتلال بلاده، وفاتورة قتل أبناء شعبه بقتل ولديه، وفاتورة تشريد الملايين من العراقيين بتشريد أفراد أسرته. وكانت أكثر الفواتير دقة فاتورة اختبائه في حفرة، فمن جملة المآسي التي تسبّب بها نظامه مأساة شاب عراقي كان مطلوباً لأجهزة الأمن، بقي مختبئاً في بيت أسرته خلف جدار أقامه في إحدى الغرف، وظلّ معزولاً هناك سنوات طويلة مُخفياً الحقيقة عن الجميع، بمن فيهم أفراد أسرته باستثناء والدته التي كانت تلقي إليه الطعام من ثقب في الجدار. ورغم أن الجميع يعتقد بصحة مبدأ دفع الفواتير على مستوى الأفراد، فنحن نعرف أن القاتل يُقتل ولو بعد حين، وأن من يحفر حفرة لأخيه يقع فيها، وأن "...مَن يعمل مثقال ذرة شراً يره"، وأنه كما تُدين تُدان، إلا أن بعض الناس لا يعترفون بمبدأ الفواتير على مستوى الأمم والشعوب والدول، رغم أن سجلات التاريخ تطفح بالأدلة على أن هذا المبدأ يسري على الجميع. ويمكن فهم ما جرى في أوروبا خلال الحربين العالميتين بفتح كتاب التاريخ والعودة إلى الوراء بضع صفحات حيث فظائع الحملات الاستعمارية الأوروبية في أرجاء الأرض. بالطبع فإن الأسباب التي تساق لوقوع الحربين العالميتين صحيحة، لكن كان يجب أن تقع هذه الأسباب لتندلع تلك الحروب ليدفع الجميع فواتيرهم. ويمكن فهم سقوط قنبلتين ذريتين على اليابان بالعودة قليلاً إلى ما ارتكبه اليابانيون من فظائع في حق الشعب الصيني. ويفسّر جلال الدين الرومي الزحف المغولي على إيران والعراق وآسيا الوسطى بالقول: "في البداية كان المغول يأتون إلينا وهم حفاة عراة يركبون العجول ويحملون سيوفاً من خشب، إذ كانوا أذلة قلوبهم منكسرة يسكنون الصحاري والقفار، وفي أحد الأيام قصدت جماعة من تجارهم سوقاً من الأسواق، وبينما هم منشغلون بتجارتهم المتواضعة هاجمهم جنود السلطان خوارزم شاه وأتلفوا تجارتهم وساموهم العذاب وقتلوا الكثير منهم، والتجأ الناجون منهم إلى ملكهم (جنكيز خان) يشكون ويطلبون النجدة، فطلب منهم الملك أن يمهلوه عشرة أيام، فذهب إلى خارج البلدة واعتكف في مغارة متوسلاً الله، فجاءه النداء: لقد قبلنا شكواك، اذهب فأينما حللت فإنك منصور، لذلك انتصر المغول وحكموا العالم". والأمر الثاني الذي يجعل بعض الناس تغفل مبدأ الفواتير والدفع الجماعي هو انشغالهم في الجهة التي تحصّل تلك الفواتير، كما حصل مع نظام صدام، فلأن أميركا هي التي تكفّلت بمهمة التحصيل، فإن المسألة الأساسية ضاعت، لكن لو لم تكن هناك قوات أميركية لكانت جهة أو قوة أخرى هي التي ستحصّلها، كما حصل في تونس ومصر، ويحدث الآن في دول عربية أخرى. والأمر الثالث هو أن طول الفترة ما بين ترصّد الفاتورة وبين تحصيل قيمتها يجعل بعض الناس يستبعدون هذا المبدأ، وبعضهم ينسون أصلاً أمر الفاتورة، وبعضهم يعتقد أن الفواتير تسقط بالتقادم، لكن طول المدة يدخل في باب الإمهال، والفواتير لا تُنسى ولا تسقط بمضي المدة.