لم يُشفِ خطابُ أوباما غليلَ العرب في التطلع إلى أوضاع عربية أفضل، ولم يأتِ بجديد اللهم إلا فيما يتعلق بعملية السلام في الشرق الأوسط التي رفضها نتنياهو خلال اتصال سابق للخطاب مع أوباما، على أساس رؤية هذا الأخير تضمين حدود 1967 كأساس لحل الدولتين، فيما رحبت اللجنة الرباعية برؤية أوباما وأعلنت دعمها لها. وطبقاً لواقع الحال، فإن عملية السلام سيستمر جمودها لوقت قد يطول حتى رحيل أوباما عن سدة الرئاسة؛ لأن إسرائيل لا تريد السلام، وتريد للقضية الفلسطينية أن تراوح مكانها، بينما تزيد هي في إنشاء المستوطنات وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، والترويج للرأي العام العالمي عن ضعفها و"عنف" العرب حولها! وقد سادت الخطاب "الأوبامي" لغة "توافقية" لا تخطئها الأذن! فهو "يؤكد على حق الشعوب"، و"ينبذ العنف"، دون أن يحدد أسبابه! كما أنه يُقرّ بأن "شعوب المنطقة لم تحصل على استقلالها"، لكنه يتعامل مع الحكومات "التي حصلت على استقلالها" وبنت علاقات وطيدة جدّاً مع الإدارات الأميركية المتعاقبة! كما يؤكد على "حرية الأفراد" و"تقرير مصيرهم"، ولكنه من جانب آخر يؤكد على "استقرار الدول"! وهذه "البلاغة" في اختيار الألفاظ -التي تعوَّدنا عليها من المسؤولين العرب- تجعل المتلقي العربي في حيرة من أمره! فحرية الأفراد لم تتحقق في الدول السلطوية التي تحتفظ الولايات المتحدة معها بعلاقات "حميمية جدّاً"! وذات الحرية يجب أن تنطبق على الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، والضغط على إسرائيل من أجل تحقيق سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط! وإفهام الرأي العام العالمي لحقيقة الأوضاع في الأراضي العربية المحتلة. لقد عرفنا موقفَ الولايات المتحدة من قضايا التحولات العربية الأخيرة، وهو موقف متردد و ملتبس! عكس الدول الأوروبية. كما أن نظرة أوباما لهذه التحولات تبدو نظرة انتقائية! فهو ينبذ العنف ويؤكد على حق الشعوب في اختيار قادتها. ويطالب بعض الديكتاتوريين العرب بالرحيل! إلا أنه يتردد في المجاهرة بالطلب من ديكتاتوريين آخرين بضرورة الرحيل، أو وقف عمليات القتل والسجن العشوائي بحق شعوبهم التي تطالب بحقوقها، أو وقف قمع الحريات في بلدانهم. أما ما أشار إليه من أن "أهم أولويات الولايات المتحدة هو تشجيع التغيير الديمقراطي في أنحاء المنطقة"، فهو يناقض الفعل على الأرض! لأن الولايات المتحدة لم تخفِ -حتى في خطاب أوباما الأخير- حرصها على "النفط"! وفي ميكافيلية المصلحة البائنة، فإن "النفط" أهم من الديمقراطية بالنسبة للأميركيين! ولا يمكن للولايات المتحدة أن تضحيِّ بالنفط من أجل منح الشعوب الديمقراطية! وكذلك ما يتعلق بالأمن -الذي أشار إليه صراحة الرئيس الأميركي- ولكن أمنُ من؟! أمن الشعوب أم أمن الحكومات؟! وكذلك حقوق الإنسان! حقوق الشعوب أم حقوق الحكومات؟! وهو يدرك أن أعتى الديكتاتوريات التي سقطت في العالم العربي كانت من أقوى حلفاء الولايات المتحدة، وأكثرها قمعاً للحريات ومخالفة لمبادئ حقوق الإنسان. فلماذا صبرت الولايات المتحدة ثلاثين عاماً أو يزيد وهي ترى البطش والعنف والفساد والاجتراء على الحريات في تلك الدول وغيرها، دون أن تحرك ساكناً؟! ما الجديد المثير في قضية اليوم مقارنة بما أعلنه "كولن باول" أو "كوندوليزا رايس" وزيرا خارجية الولايات المتحدة قبل سنوات، عن حقوق الإنسان ونشر مبادئ الديمقراطية في الشرق الأوسط؟! ولربما يكرّر رئيس الولايات المتحدة المقبل، أو أوباما إن تم انتخابه لفترة ثانية، نفس الأفكار، التي تراهن على الوقت لا على الإنسان. إن دعم التغيير في الشرق الأوسط لن يتحقق عبر الوعود أو البلاغة اللفظية! بل بممارسة الولايات المتحدة لدور أكثر فعالية لوقف الاجتراء على حقوق الإنسان، ودعم التوجهات نحو الديمقراطية، والتحول المدني في دول ما تزال غير ديمقراطية على رغم كل هذا الضجيج الإعلامي في المؤتمرات والفضائيات حول نشر الديمقراطية وأنها خيار الحكومات. وعلى رغم كل هذا العنف الذي يطال الشعوب المطالبة بحقوقها. ثم ماذا سيفيد قول أوباما إن الرئيس الفلاني يجب أن "يقود عملية التغيير أو أن يتنحى"؟ ماذا لو امتد عمر الرئيس ولم يتنحَّ؟! وواصل جنوده قتل المئات يومياً وزج مئات آخرين في السجون دون تهم. هل يدرك أوباما ماذا يجري في تلك السجون؟! وكيف يُعامل المطالبون بحرياتهم؟! وهو يؤكد على حقهم في تلك الحرية، وهو يدرك أنهم يعيشون في ظل حكم سلطوي؟! لقد أجاد أوباما في اللغة، وبالغ في البلاغة، لكنه ابتعد عن الموضوع والموضوعية، وقدم لنا صوراً لأبواب ونوافذ ما زالت مفتوحة منذ أن نالت الدول العربية استقلالها! وإذا كانت السياسة تقوم على جمع المتناقضات وإدخال الشعوب إلى عوالم "افتراضية" للرخاء والأمن والديمقراطية، فإن خطاب أوباما يمكن أن يكون وثيقة أدبية تضاف إلى بقية الوثائق التي تتغنى بالحلم الديمقراطي الوردي، دون ملاحظة "كوابيس" الليل التي يعانيها الشعب العربي كلٌ حسب جغرافيته، وكلٌ حسب نظامه، وكلٌ حسب المزاج السياسي السائد.