هناك إجماع من الباحثين على أن ثورة 25 يناير لم تكن ثورة قام بها "الجياع" من فقراء المصريين الذين يعيشون أساساً في العشوائيات التي تحيط بالقاهرة الكبرى، والذين ضاعت حياتهم سدى نظراً لسياسات الإثراء للقلة، والإفقار للغالبية التي طبقها النظام السابق بقيادة الرئيس المخلوع. ولكنها في المقام الأول ثورة قامت من أجل السعي لتحقيق قيم غير مادية، تتمثل في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. وهذه الثورة التي قامت بها طلائع الشباب المصري، سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية حين التحمت بها الملايين من كل فئات الشعب. ولو أردنا أن نحدد بدقة طبيعة ثورة 25 يناير في ضوء التحولات الكبرى التي لحقت بالمجتمع العالمي، لقلنا إنها تطبيق لاتجاه الانقلاب الحضاري العالمي الذي يتمثل في الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية، التي تسعى الجماهير في كل أنحاء العالم لتحقيقها في الوقت الراهن، وبخاصة جماهير الشباب الذين ينتمون إلى ثقافات متعددة، وإن كانوا يعيشون في ظل حضارة واحدة تهيمن عليها الثورة الاتصالية الكبرى، وفي مقدمتها البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الإنترنت. وهي التي خلقت الفضاء المعلوماتي بما يدور فيه من الاتصالات غير المسبوقة بين بني البشر، مثل الرسائل الإلكترونية والمدونات والفيسبوك والتويتر. ولا ننسى في هذا المقام أن هذه الوسائل المستحدثة في الاتصال هي التي مثلت البنية التحتية التي قامت على أساسها أحداث 25 يناير، والتي استطاع قادتها حشد مئات الألوف من الأنصار من خلال موقع " كلنا خالد سعيد" وغيره. وكان الشعار الأساسي هو الحرية السياسية وتحقيق الكرامة الإنسانية. وقد رصد هذا التحول الحضاري الكبير من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية عالم الاجتماع الأميركي الشهير "رولاند إنجلهارت" صاحب المسح العالمي للقيم، الذي في إطاره قام بقياس اتجاهات عينات قومية من البشر ينتمون إلى 43 دولة في مختلف أنحاء العالم، ويمثلون 70% من البشرية المعاصرة. وقد صاغ "إنجلهارت" نظريته الشهيرة عن التحول من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية وخصوصاً في المجتمعات الغربية المتقدمة. وقد أقامها في ضوء فرضين صاغهما، هما فرض القدرة وفرص التنشئة الاجتماعية. أما الفرض الخاص بالندرة فيقوم على أساس افتراض أن الأفراد في أي مجتمع يسعون لتحقيق أهداف مختلفة وفقاً لنظام تدرجي. وإذا كان الناس في كل مكان يسعون إلى تحقيق الحرية والاستقلال، إلا أن ضغط الحاجات المادية مثل الجوع والعطش والأمن الفيزيقي لابد من تحقيقها أولاً لأنها تتعلق مباشرة بالبقاء على قيد الحياة. وهكذا قرر هذا العالم الاجتماعي الكبير أنه ما دامت حالة الندرة قائمة فإن القيم المادية ستكون لها الأسبقية بغرض إشباعها أولاً على حساب القيم ما بعد المادية، مثل قيم الانتماء وتقدير الذات والإحساس بالكرامة. غير أنه يقرر أنه حالما تشبع الحاجات الخاصة بالبقاء، فإن التحول تجاه القيم ما بعد المادية سيسود سلوك البشر. أما الفرض الثاني الخاص بالتنشئة الاجتماعية فيقوم على أساس أن البحوث أثبتت أن القيم الأساسية غالباً ما تستقر لدى الإنسان حين يصل إلى سن البلوغ ولا تتغير إلا قليلاً بعدها. وفي المجتمعات التي تسودها الندرة الاقتصادية فإن اهتمامات الناس ستتركز إلى حد كبير على إشباع الحاجات الاقتصادية، مثل إعلاء النمو الاقتصادي على حساب قيمة الحفاظ على البيئة، أو التركيز على أهمية الأمن، مما يدعو إلى تأييد الأساليب السلطوية في القيادة السياسية لقدرتها على حفظ الأمن. وعلى العكس من ذلك فالمجتمعات التي حققت درجة عالية من الرخاء الاقتصادي هناك احتمالات كبيرة لأن يتحول الناس إلى تبني القيم المعنوية مثل الحرص على الحرية الشخصية والتنمية الذاتية والمشاركة في اتخاذ القرارات الحكومية. وبعبارة أخرى تحقيق نموذج المجتمع المبني على "المذهب الإنساني"، الذي يذهب إلى أن الإنسان يستطيع بجهوده الخلاقة أن ينشئ مجتمعاً متكاملاً يقوم على التعاون وليس على الصراع. هذه خلاصة موجزة للغاية لنظرية "إنجلهارت" في الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية. والواقع أن ثورة 25 يناير قد يكون من إنجازاتها غير المباشرة دحض هذه النظرية العالمية التي لاقت قبولاً كبيراً في عديد من الدوائر الأكاديمية في مختلف بلاد العالم. ولو نظرنا نقديّاً إلى الفرض الأول الخاص بالندرة الذي صاغه "إنجلهارت"، فسرعان ما سيتبين لنا أنه يقيم في الواقع تفرقة مصطنعة لا أساس لها بين القيم المادية والقيم المعنوية. وذلك لأنه يزعم أن الشعوب إذا ما كانت منغمسة -للحفاظ على بقائها- في العمل على تحقيق مطالب الحياة الإنسانية، فإنها لا تسعى بالضرورة لضمان الحرية السياسية أو تحقيق الكرامة الإنسانية. وهذه المقولة تكذبها الانتفاضات الجماهيرية الواسعة المدى التي شهدتها بلاد متعددة كان يسودها الفقر، غير أن الناس في المرحلة الاستعمارية ثارت ضد المستعمرين لتحقيق الاستقلال الوطني، كما أنه في المرحلة ما بعد الاستعمارية ثارت الشعوب ضد النظم السياسية المستبدة، سعياً وراء الحرية السياسية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان. وهكذا يتبين زيف هذه النظرية التي تقرر أن الانتقال من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية سيتحقق ما دام المجتمع قد حقق مستويات عليا من النمو بحيث ترتفع معدلات الدخل الفردي. كما أن الفرض الثاني الذي صاغه "إنجلهارت" والخاص بالتنشئة الاجتماعية ينطلق أيضاً من تصورات ميكانيكية عن الطبيعة الإنسانية ليس لها أي أساس. وخلاصة القول إن ثورة 25 يناير التي قامت طلائع الشباب فيها بالدور الأساسي سرعان ما انضمت إليها فئات الشعب المختلفة، فقراؤه وأغنياؤه على السواء، مما يدل على أن السعي للحرية السياسية وتحقيق الكرامة الإنسانية مطلب شعبي مصري جماهيري. والدليل على ذلك هو الانتفاضات السياسية والاحتجاجات الجماهيرية التي قامت في مصر في العقد الأخير على وجه الخصوص، والتي كانت في الواقع مقدمات لثورة 25 يناير. وهكذا يمكن القول إن عبور التحول إلى ضفاف الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، لم يكن مجرد حادث عارض بقدر ما هو استمرار لتراث الشعب المصري في الكفاح من أجل الاستقلال الوطني وتحقيق الديمقراطية. وهذا الكفاح شاركت فيه عبر العصور المختلفة كل فئات الشعب المصري منذ ثورة أحمد عرابي حتى ثورة 1919 وصولاً إلى ثورة 23 يوليو 1952.