تساءل الملايين من المستثمرين والمواطنين العاديين حول العالم بل وحتى مديري صناديق الاستثمار في البنوك والمؤسسات المالية، بما فيها الصناديق السيادية، كيف حدثت الأزمة؟ وكيف خسروا مدخراتهم واستثماراتهم في غمضة عين؟ وقد تمت الإجابة على بعض هذه الاستفسارات في العديد من الكتب والبحوث والمقالات الصحفية، إلا أن الإجابة الشافية والمدعمة بالوثائق والأرقام جاءت من خلال الفيلم الوثائقي "Inside Job" الذي يكشف مدى التحالفات والتلاعب بالمشتقات المالية والثراء الفاحش المبرر بالقوانين والدراسات الأكاديمية. لقد أدى تحالف الإدارة اليمينية لريجان وحزب "المحافظين" البريطاني بزعامة تاتشر مع رأس المال المالي إلى بروز تحالف مالي وسياسي متنفذ استطاع إلغاء أو تجميد العديد من القوانين التي اتخذت بعد الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي ساهمت في استقرار الأوضاع المالية والاقتصادية في العالم ومنعت التلاعب بالمشتقات وتعظيم الثروات على أسس غير صحيحة من خلال تجاوز القوانين والأنظمة المعمول بها. وانضمت إلى هذا التحالف مجموعة من رؤساء الإدارات المالية المرموقين من التكنوقراط وأساتذة الجامعات العريقة، مما ولد قناعات بصحة السياسات المالية المتخذة، في حين اعتبر كل من عارض هذه الألاعيب إنساناً محافظاً وبعيداً عن الطموح والتطوير. والحقيقة أنه لم يكن من السهل مقاومة هذا النهج المندفع بقوة القرار السياسي والمالي والدعم الأكاديمي الذي غيَّر من نظريات عديدة واستحدث أخرى بالجامعات في عملية تشويه لعلم الاقتصاد لجذب الاستثمارات من مختلف مناطق العالم بعد تقديم المبررات والدراسات التي تبين بصورة غير صحيحة نمو المشتقات المالية التي كانت تنمو ولكن بصورة وهمية وضمن معادلات رياضية استحدثها أكاديميون ومتخصصون دفعت لهم مئات الملايين في سابقة أساءت لمؤسسات أكاديمية عريقة ومعروفة بنزاهتها العلمية. أما بقية القصة وما سببته من خسائر وارتفاع في الأسعار وتلاشٍ لمئات المليارات من صناديق ومدخرات الدول والأفراد حول العالم، التي لا زالت تداعياتها تتوالي وتهدد بالمزيد من العواقب، فهي معروفة للجميع. والملفت للنظر أن بعض هؤلاء الأكاديميين والمسؤولين الماليين عملوا مستشارين للعديد من المؤسسات المالية والمصرفية في بلداننا، والتي تكبدت بسببهم خسائر مالية كبيرة، كما أن آراءهم واستنتاجاتهم كانت محل تقدير واسئناس من قبل عدد كبير من هذه المؤسسات الخليجية والعربية والعالمية. ومثلما في الحديث الشريف: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين"، إلا أن عدم الانتباه والتقدير الصحيح والاستفادة من التجارب السابقة ونسيانها بسرعة ربما يؤدي إلى اللدغ مرات عدة ومن نفس الجحر. فالأحداث المتعاقبة تشير إلى أن نفس المجمع أو التحالف السياسي المالي الأكاديمي لا زال مسيطراً على زمام الأمور في الغرب، وأن هناك تغييراً في الوجوه والمهام والمسميات فقط، بدليل أن إدارة أوباما لم تستطع تنفيذ وعودها حول الإصلاحات المالية بعد أكثر من سنتين من إطلاقها، بل الأدهى من ذلك أن إدارة أوباما استعانت بشخصيات من التحالف السابق ومنحتهم مراكز قيادية في الإدارة الاقتصادية الحالية للبيت الأبيض. الأكيد أن الزمن سيعيد نفسه والمأساة ستتكرر والمجمع السياسي المالي الأكاديمي لم يشبع بعد ولن يشبع ما دامت هناك فرص وما دامت هناك أموال هائلة تجوب أسواق العالم باحثة عن منافذ ومتنفس بغض النظر عن مخاطر هذه المنافذ وهذا المتنفس. ولذلك، فإن الحذر مطلوب والتعلم من دروس الأزمة وتداعياتها مطلوب أيضاً، وفي مقدمتها الاختيارات الاستثمارية الصحيحة المبنية على أسس علمية، على أن تمزج ما بين الخبرات العالمية والمحلية التي أصبحت مؤهلة وقادرة على المساهمة في إدارة الاستثمارات بإخلاص ومهنية عالية.