بسبب خوفها من انحدار باكستان المحتمل إلى المزيد من منزلقات عدم اليقين، والتطرف، والخطر، حرصت المملكة المتحدة، ومعظم بلدان العالم الغربي، دوما، على عدم تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية عندما كان الأمر يتعلق بوصف سلوك تلك الدولة. ولكن رئيس الوزراء البريطاني خرج على هذا النهج العام الماضي، عندما اتهم باكستان بالتذبذب في التعامل مع الإرهاب، وهي تهمة استاءت منها إسلام آباد وردت عليها بحزم. لكن اكتشاف مخبأ بن لادن، وقتله في مدينة أبوت آباد، يظهر بجلاء أن "كاميرون" كان على صواب. كان رئيس الوزراء البريطاني قد أُطلع قبل أن يتهم باكستان بذلك الاتهام على العديد من الحقائق منها أن الاستخبارات العسكرية الباكستانية القوية قد عملت لسنوات طويلة مع "طالبان" أفغانستان، وقائدها الملا محمد عمر، الذي يعتقد أنه مختبئ في بلوشستان، وأن الجيش الباكستاني لم يعمل أبدا على طرد "شبكة حقاني"، حليفة "القاعدة" من منطقة شمال وزيرستان المضطربة. بالإضافة لذلك، دأب الأميركيون على الشكوى من أن باكستان لم تكن مفيدة بحال في الجهود الرامية لطرد الإرهابيين المقيمين فيها، بالقرب من حدودها مع أفغانستان. على مستوى أكبر، أدى بيع الأسرار الذرية لخصوم الغرب بواسطة العملاء الباكستانيين، وهو ما بات موثقاً بشكل كافٍ في الوقت الراهن، إلى متاعب كبيرة للغرب.. كما كانت المنظمات الإرهابية التي وقفت وراء الهجوم الصاعق على المدنيين في بومباي، تتمتع، على ما بدا، بقدر من الدعم من جانب السلطات الباكستانية. ويضاف إلى ذلك أن باكستان قد سمحت بازدهار العديد من المدارس التي تدرس برامج متطرفة، دون أن تتخذ إجراء ضدها. أما بالنسبة لموضوع بن لادن، فمن المعروف أن زعيم "القاعدة" عاش في فيلا من ثلاثة طوابق في مدينة أبوت آباد التي تبعد 35 ميلًا عن العاصمة إسلام آباد منذ عام 2005 حسب الإفادة التي أدلت بها واحدة من زوجاته التي قبض عليها عقب الغارة. قبل ذلك عاشت الأسرة، في قرية قريبة من أبوت آباد منذ 2003. ويقال إن واحدة فقط من زوجاته هي التي تعرضت لمتاعب قليلة في الخروج من اليمن، والالتحاق به. الشيء الغريب أن الأكاديمية العسكرية الباكستانية الرئيسية تقع في أبوت آباد التي كان يعيش فيها بن لادن وأن ضباط الجيش الباكستاني، يفضلون العيش فيها بسبب ارتفاعها عن سطح البحر واعتدال مناخها. ومثل هذه الحقائق وغيرها هي التي جعلت أوباما، يقول إن بن لادن كان يتمتع بـ"شبكة دعم" في أبوت آباد. ويشار في هذا السياق إلى أن قوة"سيل" التابعة للبحرية الأميركية التي قتلت بن لادن، عثرت في الفيلا التي كان يعيش فيها، على العديد من المواد ذات الأهمية الاستخبارية وأجهزة الكمبيوتر بما يكفي لتكوين" مكتبة صغيرة بحجم المكتبات الموجودة في الكليات". ولا شك أن البيت الأبيض قد علم الآن من خلال تحليل تلك المواد ذات الأهمية الاستخبارية التي حصل عليها، بأسماء أعضاء الاستخبارات العسكرية الباكستانية الذين كانوا يهتمون بأمر بن لادن. والجيش الباكستاني مقتنع تماماً، لأسباب تاريخية في معظمها، أن الهند تشكل التهديد الرئيسي لبلاده. كما أن الجنرالات الباكستانيين يريدون أن يركز جيشهم على الحدود الشرقية مع الهند، وليس على الحدود الشمالية الغربية مع أفغانستان. فهم يريدون أن تكون أفغانستان إلى جانبهم، وأن يضمنوا أنها لن تنضم إلى المعسكر الهندي. لهذا السبب نراهم ينظرون إلى "طالبان" على أنها قوة موالية لباكستان، وهو ما يفسر رغبتهم في عدم العمل ضدها. وفي الحقيقة أن باكستان لم توافق على الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية في حربها العالمية على الإرهاب أو التعاون معها في حربها على أفغانستان، إلا على مضض. وفي إطار هذا التعاون تسمح باكستان للإمدادات الضخمة المتجهة إلى القوات الأميركية بالوصول إلى أفغانستان بعد تفريغها في موانيها ثم انتقالها بالبر إلى منطقة الحدود مع تلك الدولة. إلى جانب ذلك حاربت باكستان متطرفي طالبان وفقدت المئات من جنودها خلال ذلك. ولكن من المؤكد أنها لا تحب الغارات التي تشنها الطائرات الأميركية من دون طيار لاصطياد قادة "طالبان" و"القاعدة" الذين لا يزالون موجودين فيها، والتي تنتقدها علنا، ولكنها تسمح لأميركا - سراً - بالاستمرار في تلك الغارات. وهي أيضاً لا تحب أن ترى هذا العدد الكبير من عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية الذين يعملون في أراضيها. الشيء الذي يدعو للدهشة هو أن باكستان تدير في الوقت نفسه سياستين مختلفتين تمام الاختلاف، وليست ثمة أي دلائل على أنها تنوي تغيير ذلك عما قريب. والسبب الذي يدعو باكستان لاتباع سياستين مختلفتين، هو أن الجيش الباكستاني له نفوذ كبيرة وكلمة فاصلة في إدارة الشؤون العسكرية وأمور السياسة الخارجية للبلاد، وهو دور يرجع السبب الأساسي فيه إلى ضعف الساسة المدنيين المنتخبين. وقتل بن لادن جلب إلى الواجهة المشكلة الخاصة بالكيفية التي يتعين بها على الغرب مقاربة باكستان، وهي دولة يبلغ عدد سكانها 174 مليون نسمة، وتتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة. ولاشك أن الغرب يحتاج إلى دعم باكستان، وسوف يظل بحاجة إليها لسنوات طويلة قادمة كما أن باكستان التي يعاني اقتصادها الضعيف من مشكلات جمة، تحتاج إلى مساعدات ضخمة يستطيع الغرب أن يقدمها مقابل تعاونها. من هنا يجب على المملكة المتحدة أن تساعد باكستان على إعادة تشكيل حكومة ديمقراطية قوية، جيدة، وعادلة، بعد كل الاضطرابات السياسية التي شهدتها في السنوات الأخيرة. ومن المهم في هذا الصدد أن يراعي الغرب التنسيق في مقاربته هذه، أن يعمل على الحديث بشجاعة ضد التطرف وضد الفساد المتغلغل في الطبقات العليا من الإدارة الباكستانية إذا لزم الأمر.