بادئ ذي بدء، ينبغي القول بأن "الاستبداد" لايجسِّد حالة طبيعية وفطرية فردية. فالإنسان الفرد لا يمثل شرطاً وحيداً لنشأة الاستبداد وممارسته، بقدر ما الإنسان الفرد هذا يمثل ظاهرة اجتماعية جماعية. ومن ثم، نجد أن الحاضنة الأصلية لهذه الظاهرة لابد أن تفصح عن نفسها في تجمع بشري مشروط بالإنتاج المادي عموماً والاقتصادي بخاصة. أما مَنْ ملك ويملك ثمار هذا الإنتاج فقد تحدد بمستوى العلاقات الاجتماعية بين الناس وبطبيعتها وبالقوى البشرية العاملة فيها. وكان من خصائص الحياة الاجتماعية الأولى أن يكون الجميع مرغمين على العمل بهدف تحقيق الحد الأدنى الضروري من حاجات البشر، نساءً ورجالاً وأطفالاً قادرين إلى حدٍ ما من تحصيل احتياجاتهم، دون القدرة على تخزين تلك الحاجات إلا لأوقات دنيا. ها هنا، لم توجد إعالة فريق من فريق آخر، إلا لصغار الصغار، ومع تحسن وتطور وسائل العمل، نشأت ظروف اقتصادية تحتمل الإعالة، خصوصاً للنساء قبل الرجال. في تلك الظروف السوسيواقتصادية مادية، نشأ تمايز في الحياة العامة، ومن ثم في التملك وفي نتائجه وحيثياته واحتمالاته، ومن ضمن ذلك في السلطة القضائية والهيمنة السياسية والقيمية...إلخ. في هذا وذاك وغيره، راح الفريق الأقوى في الثروة والسلطة وغيرهما، يفرض منظوماته القيمية والوجودية والجمالية، بقدر أو بآخر. وراح هذا الفرْض القائم على "التفوق"، يتحول إلى ما يقترب من الهيمنة على مرجعيات المجتمع ومداخله واحتمالاته، بقدْر جعل تلك الهيمنة نافذة في الحياة العامة، على الأقل بدرجة أولية حاسمة. ها هنا، ينبغي التوقف عند ذلك المسار التاريخي، الذي راح يبدو كأنه حالة فطرية من طبيعة المجموعة الاجتماعية المهيمنة، مما قاد إلى أفكار التميز الأولى لهذه المجموعة على من تبقّى من الفئات الاجتماعية. وإذا كانت تلك المجموعة المهيمنة قد حققت بعض نمو لوعي تاريخي عرفوا عبره أن تميزهم وقف وراءه سياق تاريخي بشري معين، إلا أنهم - وخصوصاً فريقاً منهم- راحوا يمنحون منجزاتهم التاريخية طابعاً إطلاقياً يجعلها ظاهرة مستديمة. وهذا ما راح يوجِد أسباباً للقول بأبديتهم وإطلاقيتهم. وإذا وصلنا إلى هذا المفرَق نجد أن هذه الفكرة اللاهوتية تتحول في أزمنة لاحقة إلى حضور وهمي فاعل في المجتمع. والآن، حيث نضع هذا في إطار هيمنة المجموعة المذكورة على السلطة والثروة والمرجعية العامة، فإن حالة تنشأ تحت حدّ "الهيمنة السياسية والأيديولوجية والقيمية الأبدية". والآن وبعد تحولات تاريخية كبرى طرأت على البشرية، يبرز التساؤل التالي وارداً في إطار تلك الهيمنة: كيف تطالبوننا بالإصلاح، وأنتم تعلمون أن هذا ليس شأنكم ولا علاقة لكم به أولاً، وكيف تتجرأون على مطالبتنا بإصلاح يقتضي تنفيذ مبدأ التداول السلمي للسلطة، وأنتم تعلمون أن سلطتنا "أبدية" ثانياً. ونلاحظ أن هذا النمط من الحكام العرب الراهنين يسعون، بجل طاقتهم، لتكريس مفهوم "الأبدية" هذا، الذي لا ينتمي للتاريخ ولا للوعي التاريخي، أي لهذين اللذين يعلنان أن كل حدث اجتماعي ذو طابع وانتماء تاريخي. على هذا النحو، يبرز الموقف اللاتاريخي والغبي معرفياً، من مسألة الإصلاح، الذي تطالب به الشعوب العربية.