في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي، وفي عنوان بارز على الصفحة الأولى، كتبت جريدة "لوموند" الفرنسية بأن مجموعة الثماني للدول الأكثر تصنيعاً في العالم تتجه نحو فرض سيطرتها حول العالم، وأن هناك سعياً دؤوباً لإعلاء مصطلح "الغرب"، وأن هذا الاتجاه ينطلق من قناعة الدول الأعضاء. وقد جاء البيان الختامي للقمة الذي بلور في اثنين وعشرين صفحة وثمانية ملحقات، معبراً عن هذا المعنى؛ فقد جاء في الفقرات الأولى من البيان: "نحن الثماني ندعم بقوة تطلعات الربيع العربي..."، كما جاء في فقرة موالية الإعلان عن انطلاق "شراكة دوفيل" مع دول وشعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وهي عبارة عن شراكة استراتيجية بعيدة المدى مع الدول "التي تبدأ عملية الانتقال نحو مجتمعات حرة، ديمقراطية ومتسامحة بدءاً بمصر وتونس، وبالاشتراك مع البلدان التي ترغب في دعم العملية الانتقالية"؛ ومن بين ما يمكن أن تكرسه تلك الشراكة "القيم المشتركة كالحرية والديمقراطية" وعلى أساس "احترام سيادة الدول". وكنا قد كتبنا في إحدى المقالات على أعمدة هذه الجريدة مباشرة بعد التغيرات في مصر وتونس أن الغرب افتقر منذ البداية إلى استراتيجية محددة المعالم تتعامل مع منطقة قريبة منه؛ واستشهدنا بنظريات ومبادئ معروفة عند المختصين في تاريخ العلاقات الدولية كمبدأ مونرو (1823)؛ ومبدأ هاري ترومان (1947)، ثم مشروع مارشال (1947). وأظن اليوم أن استراتيجية الغرب تجاه المنطقة العربية بدأت تتغير منذ أن شن غاراته الأولى على ليبيا، وتحاول التعامل بسرعة مع أوضاع تاريخية غير متوقعة، لتتعدى مرحلة المشاهد الذي يرد على الواقعة عند حدوثها إلى التفكير واتخاذ الدور القيادي فيه. ولكن "شراكة دوفيل" لن تؤتي أكلها لأنها لم تقم على أسس موضوعية أو محايدة تسعى إلى تحقيق وتكريس استراتيجية مقبولة تعلي مفاهيم الحق الدولي والعدالة الدولية وحكم الشعب بالشعب وإرجاع الحقوق إلى أهلها، على المصطلح الضيق والمحدود لكلمة "الغرب"؛ وبإمكاننا سرد مثالين على ذلك: 1- تغاضى البيان الختامي عن ذكر الدولة الفلسطينية وأشار إلى ملف السلام في حدوده الدنيا جدّاً؛ بل وحتى أوباما منذ ما يزيد عن عشرة أيام تحدث عن دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وهذا يعتبر تطوراً ملحوظاً في حد ذاته ولكنه لم يؤخذ بعين الاعتبار في البيان الختامي الذي لم يأتِ بموقف جريء يغير من نظرة العرب حول المساندة اللامشروطة للغرب تجاه إسرائيل. واكتفى البيان بالتشديد على كون المفاوضات هي الوسيلة الوحيدة للسير بعملية السلام إلى درب التسوية؛ ويمكن النظر إلى هذه التفاهة في الإعلان الختامي على أنها رغبة في تفادي إحراج بعض الدول التي تعارض توجه الفلسطينيين إلى الأمم المتحدة في سبتمبر المقبل. 2- حذفت من الفقرة 66 من البيان الختامي الجملة التي كانت تقول "إذا لم تستجب السلطات السورية لهذا النداء لوقف العنف ضد المتظاهرين وإجراء إصلاحات جذرية فإننا (أي مجموعة الثماني) نتطلع لعمل ضد سوريا في مجلس الأمن الدولي" واستعيض عن هذه الجملة بما يلي "إذا لم تأخذ السلطات السورية بعين الاعتبار هذا النداء، فسوف ننظر في تدابير أخرى". وبالمناسبة أعلنت فرنسا أنها ستوفر مليار دولار لمصر وتونس وسيصل مجموع المساعدات المالية إلى 40 مليار دولار حتى عام 2013؛ ولكن يبقى أن المساعدات المالية لوحدها غير كافية من أجل البناء والإعمار والتشييد والتغيير وتحقيق السلم وتقريب الشرق بالغرب ما لم تدخل في إطار استراتيجية متكاملة؛ لأنها إلى حد الساعة تدخل في إطار فرض سيطرة "التصور الغربي" للأمور بمعاني كلمة الغرب الثلاث: 1) الإرث اليوناني- الروماني الذي بلورته عصور النهضة الأوروبية، ومأسس للأرضية الفكرية والمرجعية للثقافة الغربية. 2) التقليد اليهودي- المسيحي، بمعنى ارتباط عهدي النص المقدس وانتماء المسيحية للإرث الإبراهيمي. 3) المنظور الاستراتيجي الذي استوعبته المعادلة الدولية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وفي بداية حملته الانتخابية الرئاسية، أعلن الرئيس الفرنسي موالاته لهذه المفاهيم؛ ودافع عن المفهوم الغربي للعالم القائم على الدفاع عن القيم الغربية، وعن إسرائيل، والتحالف مع أميركا؛ ووصف كراهية أميركا بأنها: "سرطان ثقافي يمنع فرنسا من القيام بدبلوماسيتها على أفضل وجه"؛ وفي يونيو 2010، أعلن عن أمله ألا تنصهر مجموعة الدول الثماني في مجموعة الدول العشرين، لأن الأولى هي تجسيد للعائلة الديمقراطية في كل مكوناتها. لا أظن أن التصور الاستراتيجي لمجموعة الدول الثماني عن الربيع العربي جدير بالتصفيق أو القبول في المجتمعات العربية، لأنه ينم عن نفاق كبير: ماذا عن الدول العربية التي عرفت تنمية ديمقراطية بعيدة عن ويلات التحولات وانطلاقاً من الميثاق السياسي؟ ألا تستحق هي أيضاً الدعم والإشادة؟ لماذا لا ينادي الغربيون بحقوق الفلسطينيين ويدينون إسرائيل مجتمعين؟ ولماذا لا يشار إلى الإسلام على أنه مكون من نفس الفضاء التوحيدي- المتوسطي الذي شكل ما يسمى بالغرب ويشار دائماً إليه على أنه "الآخر"؟ ولماذا تقصى دول انتهكت حقوق الإنسان من الإدانة الشديدة وتدان أخرى؟ في سنة 1968، أعلن الاتحاد السوفييتي عن "مبدأ بريجنيف" الشبيه بـ"مبدأ ترومان" ولكن في الخط المعاكس، بمعنى دعم كل السياسات المعادية للمصالح الغربية؛ وأخاف أن يكون "مشروع دوفيل" أو "مارشال الثاني" لصالح تونس ومصر بداية انقلاب إلى مبدأ قريب لمشروع "بريجنيف" تزداد فيه كراهية الشعوب العربية للدول الغربية، وتزداد الهوة بين الجانبين، وخاصة أن الشعوب العربية بدأت تصنع تاريخها، وبإمكانها أن تسير في الاتجاه المعاكس الذي لم يتصوره الغرب بسبب محدودية منظوره الاستراتيجي وقلة بصيرته فينقلب آنذاك السحر على الساحر.