أصبحت صربيا منذ يوم الخميس الماضي أقرب، وبمسافة معتبرة، إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. وفي أحدث رد فعل أوروبي، اعتبرت مفوضية السياسة الخارجية بالاتحاد، كاترين آشتون، أن العدالة تحققت بإلقاء القبض على راتكو ميلاديتش، وقالت وهي تخاطب الرئيس الصربي: "أقدّم لك التهنئة على اعتقال السيد ميلاديتش، وإنه لشيء رائع أن أكون هنا وأنت تنجز ما أردت تحقيقه". لكن من هو ميلاديتش؟ وما الذي يجعل إلقاء القبض عليه مهماً إلى هذا الحد؟ راتكو ميلاديتش هو جنرال سابق من صرب البوسنة، متهم بارتكاب جرائم حرب خلال حرب البوسنة حين كان قائد أركان الجيش الشعبي اليوغسلافي، وقد وُجّه له الاتهام من قبل المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة في عام 1995، وصدرت مذكرة اعتقال دولية ضده، لكنه ظل هارباً من العدالة الدولية طيلة 16 عاماً، إلى أن أُلقي القبض عليه من قبل قوات الأمن الصربية، يوم الـ26 من مايو الجاري في صربيا، ليصبح آخر ثلاثة رجال يُلقى عليهم باللوم في التطهير العرقي أثناء الحرب البوسنية، بعد كل من ميلوزوفيتش وكاراديتش الذين سبق أن وقعا في قبضة المحكمة. ولد ميلاديتش عام 1942 في البوسنة، في بلدة "كالينوفيك" الواقعة إلى الجنوب الشرقي من سراييفو، وكانت قد أصبحت في حينه -لكن لوقت قصير فقط- جزءاً من "جمهورية كرواتيا المستقلة" عقب تقسيم مملكة كرواتيا على يدي الغزو الألماني النازي والإيطالي الفاشي. في تلك المرحلة التاريخية العصيبة من تاريخ البلقان، فتح الطفل ميلاديتش عينيه على مشاهد الحرب والقتل ومناظر الموت والدم، وخبر حياة اليتم حين كان في الثالثة من عمره، حيث قتل والده خلال اشتراكه في هجوم فاشل نفذته ميلشيات الحزب الشيوعي لصرب البوسنة ضد الزعيم الفاشي الكرواتي "بافيليتش". وكان لتلك الخلفية دور في توجه ميلاديتش نحو الالتحاق بمدرسة الصناعات العسكرية عام 1961، ثم بالأكاديمية العسكرية، وبعدها بأكاديمية الضباط، ليتخرج عام 1965 برتبة ملازم، ولينضم في العام نفسه إلى الحزب الشيوعي اليوغسلافي. وخدم ميلاديتش في سكوبي، عاصمة مقدونيا إحدى جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي عندئذ، وكان أصغر شخص في الوحدة التي يقودها، ثم أصبح قائد فصيلة، فقائد كتيبة، قبل أن يصبح قائد لواء. وفي يونيو 1991 عُين ميلاديتش نائب قائد فيلق برتشينا في كوسوفو، ثم سرعان ما تولى قيادة الفيلق السابع من الجيش الشعبي اليوغسلافي حيث شارك في الحرب الكرواتية بين الصرب الموالين لبلجراد والكروات الذين أعلنوا قيام الجمهورية الكرواتية المستقلة، وقام بدعم "جمهورية كرابينا الصربية"، وهي كيان صربي مُعلن من جانب واحد داخل كرواتيا. وفي أكتوبر 1991 تمت ترقية ميلاديتش إلى رتبة "ميجر جنرال"، وفي أبريل 1992 إلى رتبة "لافتانت كولونيل جنرال"، لكن بعد بضعة أيام فقط أعلنت البوسنة نفسها جمهورية مستقلة عن يوغسلافيا، فترك ميلاديتش كرواتيا وتوجه على عجل نحو البوسنة. وهناك فرض حصاراً على مدينة سراييفو دام ثلاثة وأربعين شهراً، ليصبح أطول وأقسى حصار في تاريخ الحروب الأوروبية الحديثة. كما نفذت قواته مذبحة راح ضحيتها ثمانية آلاف رجل وفتى مسلم في بلدة سبرينيتشا، وقامت في أنحاء متفرقة من الإقليم بأعمال قنص وقتل واغتصاب واختطاف... على أساس عرقي. وفي مايو 1992 أصبح ميلاديتش رئيساً لأركان الجيش اليوغسلافي، وبقي قائداً للمنطقة العسكرية الثانية في سراييفو، وكانت تضم نحو 80 ألف عسكري يتمركزون في الإقليم. كما أصبح قائد هيئة الأركان الرئيسية لـ"جمهورية صبريسكا" التي ترأسها كاراديتش ككيان صربي داخل البوسنة. لكن بداية من منتصف 1995 تعرضت قوات ميلاديتش لحملة قصف جوي شنها "الناتو" لحمل صربيا على الامتثال للقرارات الدولية بسحب قواتها من البوسنة، مما اضطر ميلاديتش إلى سحب جنوده على عجل والتخلي عن بعضهم، واصفاً ما حدث بأنه "كان مشاهد من الجحيم حقاً". وكانت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة قد وجهت إلى ميلاديتش، في يوليو 1995، تهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية، خاصة في سراييفو وسبرينيتشا. ثم أضافت له المحكمة، في نوفمبر 1995، تهمة ارتكاب جرائم حرب أخرى خلال هجوم شنه ضد المنطقة الآمنة التي أعلنتها الأمم المتحدة في سبرينيتشا في يوليو 1995. وظل ميلاديتش هارباً من العدالة الدولية منذ آخر مرة شوهد فيها أواخر عام 1995، حيث تضاربت التكهنات حول مكان وجوده، فقيل مرة إنه مختبئ في صربيا تحت حماية الجيش، وقيل مرة أخرى إنه يعيش في جمهورية الجبل الأسود أو في المناطق الصربية بالبوسنة، كما تردد أن شهوداً رأوه في أحد قطارات موسكو. إلا أن صربيا ما بعد ميلوسوفيتش تعهدت بإلقاء القبض على ميلاديتش وتسليمه للعدالة الدولية، وتعرضت لضغوط غربية عدة لدفعها نحو الوفاء بذلك الالتزام. وعشية الموعد النهائي الذي حددته المحكمة الجنائية الدولية لصربيا كي تسلم ميلاديتش، وهو الأول من مايو 2006، قالت المدعية العامة للمحكمة، كارلا دي بونتي، إن بلجراد متهاونة في اعتقال القائد العسكري المختفي. وأدى ذلك إلى تأجيل التفاوض حول عضوية صربيا في الاتحاد الأوروبي الذي يصر على اعتقال ميلاديتش، وعلى التعاون الكامل مع الجنائية الدولية، كشرطين مسبقين يتعين على صربيا تنفيذهما قبل ضمها لعضوية الاتحاد. والآن، وفيما ينتظر أن يتم ترحيل ميلاديتش إلى لاهاي لتسليمه إلى محكمة الجنايات الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة، وسط ترحيب دولي متواصل بتوقيفه... يبدو الشارع الصربي منقسماً بين من يعتبره بطلاً قومياً آخر يقع ضحية للحقد والكراهية ضد الأمة الصربية لدى باقي الأمم الأوروبية الأخرى، وبين من يرى في تسليمه ثمناً ضرورياً ومعقولاً لنيل الجائزة الأوروبية، ولإزالة آخر العقبات أمام الاندماج في آليات الفضاء الأوروبي، بما ينطوي عليه من وعود وآمال قد تعوض صربيا عن سنوات الحرب والحصار وصراعات البلقان. محمد ولد المنى