عندما أعلن رئيس الولايات المتحدة في الخطاب الذي ألقاه في التاسع عشر من هذا الشهر بمقر وزارة الخارجية الأميركية سياسة إدارته تجاه الشرق الأوسط، والتي من بينها تأييده لقيام دولة فلسطينية في حدود 1967، فإنه بذلك قد ذهب إلى أبعد مما ذهب إليه أي رئيس أميركي آخر من قبله. وبطبيعة الحال، فقد عارض رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ذلك جملة وتفصيلاً، وهذا بدا واضحاً في الخطاب الذي ألقاه لاحقاً (في الرابع والعشرين من مايو الجاري) أمام جلسة مشتركة للكونجرس الأميركي الذي صفق له بحرارة، حيث أعلن نتنياهو أن حدود 1967 هي حدود لا يمكن الدفاع عنها. والحال أننا لا يمكن أن نجد حجة أكثر بطلاناً من هذه، لأنه انطلاقاً من هذه الحدود ذاتها حققت إسرائيل الانتصار العسكري الواضح عام 1967. وعلاوة على ذلك، فإن تفوق الجيش الإسرائيلي اليوم يجعل احتمال اندلاع حرب بين إسرائيل والبلدان العربية أمراً مستبعداً جداً، ناهيك عن الضمانة الاستراتيجية التي توفرها لها الولايات المتحدة الأميركية، ناهيك عن الترسانة النووية الإسرائيلية. ومن جهة أخرى، حذر أوباما السلطة الوطنية الفلسطينية من مغبة تبني نتيجة عملية تصويت من خلالها يتم إعلان قيام الدولة الفلسطينية، وذلك في إطار اجتماعات الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة التي ستعقد في شهر سبتمبر المقبل. غير أن رئيس السلطة الفلسطينية، الذي قام خلال الآونة الأخيرة بتوقيع اتفاق مصالحة مع حركة "حماس"، لا يمكن أن يسمح لنفسه بالتراجع إلى الوراء حتى لا يفقد مصداقيته السياسية. ثم إنه لا يملك خياراً آخر غير مواصلة هذا الطريق، حتى وإنْ كان ذلك ينطوي على خطر توتر العلاقات مع الولايات المتحدة. ومما لا شك فيه أن الحجة الإسرائيلية التي تعارض إجراء عملية تصويت في الجمعية العامة حول قيام دولة فلسطينية (حجة يتبناها أوباما) ليس جادة البتة. فحسب نتنياهو، فإن أي تسرع في الاعتراف بدولة فلسطينية لن يؤدي إلا إلى الإضرار بالمفاوضات الحالية. والحال أن هذه المفاوضات لا تفرز أي نتيجة ملموسة أصلاً، ويبدو أنها يمكن أن تستمر، بهذه الوتيرة، لسنوات أخرى عديدة قبل أن تفضي إلى قيام دولة فلسطينية، مقلصة جداً مقارنة مع حدود 1967 من دون القدس كعاصمة لها. أما الحجة القائلة بأن المصالحة الداخلية الفلسطينية هي التي تحول دون انخراط إسرائيل في مفاوضات مع الفلسطينيين بسبب وجود حركة "حماس"، فإنها حجة باتت تفتقر إلى المصداقية، بالنظر إلى أن إسرائيل كانت تقول في السابق إن انقسام الفلسطينيين يحول دون إجراء مفاوضات ذات مصداقية. والواقع أن معارضة أوباما لإجراء عملية تصويت في الأمم المتحدة حول قيام دولة فلسطينية إنما تعزى في المقام الأول إلى رغبته في عدم قطع الجسور مع الحكومة الإسرائيلية وحلفائها داخل الولايات المتحدة، وذلك في وقت لم يعد يفصلنا فيه عن موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة سوى خمسة عشراً شهراً أو أقل. صحيح أن الولايات المتحدة لا تتوفر على حق النقض "الفيتو" في الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ وعملية التصويت ستكون بمثابة مؤشر فقط، ولن تكون لها قوة قانونية ملزمة. غير أنها ستكون بالمقابل ذات أهمية سياسية كبيرة جدا، كما ستسمح بتقييم ميزان القوة العالمي تجاه القضية الفلسطينية. وهنا في الواقع يوجد خطر ظهور مشكلة بالنسبة للغربيين إن هم أصروا على صياغة موقفهم وفق الإرادة الإسرائيلية. ذلك أن ثمة احتمالاً لقيام عدد كبير من الدول بالتصويت لصالح قرار مؤيد لقيام دولة فلسطينية، نظراً لأن البلدان غير الغربية، التي تشكل الأغلبية الساحقة، تعبت وملت وضاقت ذرعاً بالعرقلة الإسرائيلية المستمرة لتسوية للنزاع نظراً للدعم اللامشروط الذي تقدمه لها الولايات المتحدة. والواقع أن التضامن مع الفلسطينيين يتجاوز إلى حد كبير إطار البلدان العربية أو حتى الإسلامية، ذلك أن الدول الصاعدة الكبيرة من قبيل جنوب أفريقيا والبرازيل... تولي أهمية كبيرة لقضية حق الشعوب في تقرير مصيرها. ولئن كان في حكم المؤكد أن الولايات المتحدة لن تصوت لصالح هذا القرار، فإن البلدان الأوروبية ستجد نفسها في وضع صعب إنْ هي قامت بالشيء نفسه: ذلك أنها ستواجه خطر أن تبدو معزولة إن هي اعترضت. أما إذا امتنعت عن التصويت، فإنها ستعطي انطباعاً بالغياب عن الساحة الدولية. وبالتالي، فهل يمكن أن تقدم على التصويت لصالح القرار؟ الأكيد أنه في الوقت الذي بدأ فيه العالم الغربي يفقد فيه على المدى الطويل احتكار القوة القائم منذ زهاء خمسة قرون، فإنه ليس من الحكمة والحصافة السير في اتجاه عزلة. لقد شدد رئيس الوزراء الإسرائيلي في الخطاب الذي ألقاه أمام الكونجرس الأميركي على أن إسرائيل هي أفضل حليف للولايات المتحدة؛ غير أن هذا أمر قابل للنقاش، لأن الدعم اللامشروط الذي تقدمه واشنطن لإسرائيل يساهم في فقدانها الشعبية والمكانة على الصعيد الدولي.