عندما كنت في المغرب الأسبوع الماضي، نُظم لقاءان تكريميان متزامنان في الجامعة للمفكرين البارزين:المغربي "عبد الله العروي" والتونسي "هشام جعيط". الرجلان هما (بالإضافة لحسن حنفي) خاتمة نموذج كامل من المثقفين العرب اتسم بسمات أربع محورية: التكوين الموسوعي والاهتمام بالمسألة التراثية من منظور المناهج التأويلية المعاصرة ومسالك العلوم الإنسانية، والمنظور النقدي لتجربة التحديث العربية وللأنساق الأيديولوجية التي عبرت عنها، والطموح لتأسيس مشروع فكري مكتمل بديل يقدم صياغة شاملة لموضوعات التحديث العربي. أدرك هذا الجيل ديناميكية حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار، وعاش حقبة المد القومي وعصر "الثورات العسكرية"، وشكلت هزيمة 1967 نقطة تحول في مساره الفكري، وغابت أغلب وجوهه البارزة في السنوات الأخيرة، قبيل التحولات العربية الراهنة. يكاد يتماثل العروي وجعيط في تجربتهما الفكرية، على الرغم من بعض الاختلافات الدالة، كلاهما مؤرخ محترف بارع في اختصاصه (تاريخ المغرب بالنسبة للعروي وتاريخ المدينة الإسلامية الوسيطة بالنسبة لجعيط)، كلاهما له ثقافة فلسفية مكينة وصلبة واطلاع بارز في العلوم الإنسانية والدراسات الاستشراقية، كما إن كليهما كتب أعماله الأساسية باللغة الفرنسية، وإن كانت تركت أثراً واسعاً في الساحة الفكرية العربية. وإذا كان العروي انتمى في شبابه (على غرار أغلب أفراد جيله) لحزب الاستقلال المغربي وللحزب الاشتراكي المنشق عنه، فإنه تميز في أعماله الفكرية باستقلالية في المقاربة والمواقف، تظهر واضحة في نقده الجذري للماركسية الثورية التي تبناها حزبه في الستينيات، وفي طرحه لنهج "الماركسية الموضوعية"، التي يعني بها الماركسية المستوعبة لتركة التحديث والتنوير الأوروبي. أما "جعيط" الذي عارض البورقيبية في أوج مجدها، وكتب مقاله الشهير في بداية العهد الجمهوري في تونس "الوصوليون وصلوا"، فقد كان سباقاً في مطلع السبعينيات إلى طرح مراجعات نقدية جريئة وثاقبة للفكر القومي العربي، قبل إن يعرف بأعماله العلمية الرصينة حول التاريخ السياسي الإسلامي الوسيط. لم يكن أي من الرجلين، ولا كل نظرائهم يدعو للثورات الديمقراطية الشعبية أو يطرحها أفقاً للعمل السياسي العربي. فلقد أفضى النقد الذي وجهوه لتجربة العمل القومي العربي والتجارب السياسية، التي ارتبطت به إلى نتيجتين أساسيتين: - الوعي بهشاشة البناء السياسي العربي، وبضعف الدولة القائمة وافتقارها إلى الرصيد التاريخي الذي يؤهلها لاستيعاب عملية التحول الجذري المنشود. وبهذا المعنى، فإن كل ثوران يمكن أن يؤدي إلى الفتنة الأهلية وتآكل النسيج الوطني حتى في البلدان التي تبدو عريقة ومتماسكة. - ضعف وهشاشة النخب السياسية والمجتمعية التي تناط بها قيادة التغيير، بالنظر لمحدودية وبطء مسار التحديث الثقافي والاجتماعي، وغلبة البنيات العصبية والدينية التي لا تزال متحكمة في الهويات الجماعية. ومن منطلق هذا التشخيص، طرح المفكرون العرب المعاصرون عدة مسالك للتغيير، تتمحور حول نماذج ثلاثة أساسية: النموذج الأول هو مسلك "الإصلاح الاستيعابي المتزامن"، وتعني هذه العبارة تدارك المسافة التاريخية الهائلة التي تفصل بين العرب والغرب المعاصر، من خلال إنجاز اللحظات الثلاث المتعاقبة في مسار النهوض الأوروبي في مدى متزامن:الإصلاح الديني والتحديث الصناعي والتقني والتنوير الفكري والاجتماعي، من أجل تهيئة الظروف الملائمة للتحول الديمقراطي، الذي لا يمكن أن ينشأ في مجتمعات لا تزال تحكمها عقليات وقيم العصور الوسيطة. ويمثل "العروي" أبرز ممثل لهذه النزعة، التي يشاركه فيها "جعيط" و"هشام شرابي" وآخرون. النموذج الثاني: هو مسلك "نقد العقل" الذي يعني التركيز على الأدوات الفكرية المنتجة للثقافة السائدة والإدراكات وتصورات النخب العلمية، باعتبار أن المأزق كله يعود لهذه البنية العقدية والثقافية. ولا شك أن هذا المنهج يستند لتصور نخبوي للتغيير، يقوم على مصادرة ضمنية مفادها أن الفاعل الثقافي متحكم في وعي الناس وأن العمل الفكري (وليس السياسي الخالص) هو القنطرة نحو التغيير الجذري. ويمثل "محمد عابد الجابري" و"محمد أركون" و"حسن حنفي" هذا التوجه الذي هيمن على أصحاب مشاريع قراءة التراث. النموذج الثالث:هو مسلك "الإصلاح التوافقي المتدرج" الذي أخذ عدة صيغ تباينت بين الدعوة لتحالف المؤسسة العسكرية و"الطليعة" الثقافية تعويضاً للقاعدة المجتمعية المنظمة القادرة على دفع حركة التغيير(مقاربة أنور عبد الملك)، وبناء "الكتلة التاريخية" بالمفهوم الجرامشي المتشكلة من مختلف تيارات الأمة لإنضاج الشروط العملية للتغيير والتحول (طرح الجابري في بعض كتاباته هذا الخيار) والدعوة لتحالف قوى التحديث والعلمنة – بما فيها الأنظمة الحاكمة – ضد التيارات المعيقة للتحول الاجتماعي. لم يكن ليدور بخلد "الجابري" أن تندلع الثورة الديمقراطية في تونس ومصر بعيد رحيله، وهو الذي انتقد بشدة في كتابه "الخطاب العربي المعاصر" الرومانسيات الثورية التي راهن عليها "اليسار" في قلب أوضاع المجتمع العربي. وما كان أركون ليتوقع الحدث ذاته، وهو الذي اعتبر أن المجتمعات العربية لن تذوق النعيم الديمقراطي دون المرور بتجربة العلمنة الشاملة وخلخلة "الأنساق العقدية المغلقة". ولا يبدو أن الشباب العربي المحتج هذه الأيام قد قرأ أعلام الفكر العربي أو تأثر بأطروحاتهم النظرية، فهو يختلف عن الجيلين اللذين سبقاه من حيث الخلفية والتكوين: جيل الحركة الوطنية، الذي نهل من أدبيات الإصلاح والنهضة، وجيل المد القومي الذي آمن بقدرة الثقافة على توحيد الأمة والنهوض بها. ولا أخال مقاربات من نوع "لاهوت الثورة"( لدى حنفي) أو "النقد الأبستمولوجي للعقل العربي"(الجابري واركون) أو "التحليل المفهومي"(العروي) قادرة بذاتها على توليد حركية احتجاجية فاعلة. ومع ذلك، لا محيد عن الاعتراف بأن المفكرين العرب المعاصرين نقدوا بجرأة وموضوعية التجربة السياسية والإيديولوجية العربية، وسعوا إلى تبيئة وتثبيت قيم العقلنة والديمقراطية والتعددية في الأرضية العربية، فأسهموا بذلك، وإن بطريقة غير مباشرة في تهيئة الظروف الملائمة للتغيير المرتقب، شأنهم في ذلك شأن مفكري عصور الأنوار الأوروبية الذين مهدوا بمقولاتهم الفلسفية ونظرياتهم الاجتماعية للحركات الثورية الكبرى، التي غيرت العالم الغربي (كنظريات روسو ولوك في العقد الاجتماعي ونقد فولتير للتعصب الديني والسياسي). وبهذا المعنى نقول إن المفكرين العرب شاركوا في التحولات الجديدة.