في الانتخابات التشريعية الإقليمية التي جرت في الهند مؤخراً، حدثت المفاجأة التي لم تكن متوقعة. فقد تمكن الائتلاف الحاكم في نيودلهي بقيادة حزب المؤتمر العريق الذي تأسس قبل 125 عاماً من إلحاق هزيمة موجعة بالحزب الشيوعي الماركسي الهندي (سي. بي. إم) الحاكم في ولاية "البنغال الغربية"، واضعاً بذلك حداً لحكم الشيوعيين لهذه الولاية والمستمر من دون انقطاع منذ 34 عاماً، أما الشخصية التي لعبت دوراً محورياً في هذا الانتصار الذي حوّل "سي. بي. إم" إلى كيان سياسي منهار، خصوصاً مع سقوط زعيمه وكبار رموزه في دوائرهم الانتخابية، فهي السيدة "ماماتا بنيرجي" (56 عاماً) زعيمة حزب "المؤتمر/ترينامول" الذي لم يمض على إنشائه سوى 13 عاماً مقابل 71 عاماً على ظهور الحزب الشيوعي الهندي، و47 عاماً على انشقاق "سي. بي. إم" عن الأخير. وبطبيعة الحال توقف المراقبون طويلاً أمام هذا الحدث لأسباب كثيرة: فهو أولًا أعطى الحكومة المركزية بقيادة "مانموهان سينج" فرصة لالتقاط الأنفاس من بعد سلسلة من فضائح الفساد التي تورط فيها بعض وزرائه، وكادت تسقط حكومته. وهو ثانياً أعطى المرأة الهندية ثقة مضاعفة بالنفس من بعد الثقة التي تولدت لديها من بروز "سونيا غاندي" كزعيمة لأكبر أحزاب البلاد، ومن وصول "براتيبا باتيل" إلى منصب رئاسة الجمهورية، ومن وجود سيدتين أخريين كرئيستين لحكومتي ولايتي "تاميل نادو" و"أوتار برايش" ناهيك عن أن الحدث برهن للعالم أن نساء الهند لم يعدن فقط مجرد ربات بيوت يطبخن "الكاري" و"الدال" ويحممن أطفالهن وينتظرن أزواجهن، بل صرن رقماً صعباً في المعادلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهو ثالثاً عبــّد الطريق أمام حكومة "مانموهان سينج" للمضي قدماً، ومن دون اعتراضات برلمانية، في تنفيذ إصلاحات اقتصادية طال انتظارها مثل رفع أسعار الوقود، و قانون مصادرة الأراضي، ومنح المزيد من الحوافز للمستثمرين الأجانب، خصوصاً مع حصول الشيوعيين على 72 مقعداً فقط من أصل 294 في برلمان "البنغال الغربية"، ناهيك عن أن هذا الانتصار المدوي للائتلاف الحاكم في نيودلهي جاء متلازماً مع انتصارات أخرى له ضد الأحزاب الشيوعية في ولايات "آسام" و"كيرالا" و"بوندتشيري"، وهو رابعاً برهن مجدداً على مدى متانة الديمقراطية الهندية، وتقبل الجماهير الهندية لنتائج المعارك الانتخابية برحابة صدر، بدليل أن مناصري الشيوعيين - وهم كثر ومتنفذون - لم يعترضوا على خروج حزبهم من الحكم عبر اللجوء إلى العنف والتخريب على نحو ما يحدث في دول العالم الثالث. وهو خامساً برهن على أن أي فرد - بغض النظر عن جنسه أو عرقه أو دينه - بإمكانه أن يصل إلى أعلى المناصب. فها هي امرأة من عامة الشعب، ترتدي الساري التقليدي الرخيص، وتنتعل خفاً من البلاستيك، تتمكن بالإرادة الصلبة من إزاحة شخصيات نافذة ذات جذور إقطاعية مترسخة. ولعل الجزئية الأخيرة بحاجة إلى المزيد من تسليط الضوء. فـ"بنيرجي" التي يناديها أنصار بـ"ديدي" أو "الأخت الكبرى"، بدأت حياتها كابنة لرجل معدم من الطبقة العاملة الدنيا. وعاشت في بيت خشبي متواضع على ضفاف أحد أنهار مدينة "كلكتا"، وهو البيت نفسه الذي لا تزال تعيش فيه إلى اليوم مع أمها، رافضة الزواج والإنجاب. وحينما كانت في سن الثالثة عشرة توفي والدها، فأصبحت المسؤولة عن أسرتها المكونة من أمها وخمسة أطفال، الأمر الذي أثقل كاهلها ودفعها إلى النزول إلى سوق العمل في سن مبكرة، بل جعلها تعيش أوضاعاً معيشية صعبة إلى الحد الذي كانت معه تتناوب النوم مع أخواتها وإخوانها فوق أو تحت سرير واحد. غير أن سيرتها الذاتية تقول إنها تمكنت بإرادتها الصلبة وسعيها الدائب من التغلب على كل التحديات، بل ونيل عدد من الشهادات العالية في حقول مختلفة. فمن حصولها على ليسانس التاريخ من جامعة "جوغامافا ديفي" إلى نيلها درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي من جامعة كلكتا، فحصولها على ليسانس التربية من جامعة "شيري شيكشافاتان" الذي أتبعته بحصولها على إجازة الحقوق من جامعة "جوزيف تشودري" في كلكتا. وبهذه الحصيلة العلمية المتنوعة، معطوفة على سيرة حميدة تظللها صور الكفاح والصدق والأمانة والاستقامة، والخطاب المتسق مع علمانية النظام الهندي، خاضت "بنيرجي" العمل السياسي لأول مرة في السبعينات من خلال الانخراط في حزب "المؤتمر"، الذي برزت من خلاله كنجمة سياسية، وسكرتيرة عامة للحزب بولاية البنغال الغربية ما بين عامي 1976 و 1980 ، قبل أن تفوز في انتخابات عام 1984 التشريعية وتدخل البرلمان كأصغر النواب سناً. شغلت "بنيرجي" أيضاً منصب الأمين العام لمؤتمر عموم شباب الهند حتى 1989 ، لتعود بعد ذلك إلى خوض الانتخابات العامة من دائرة جنوب كلكتا بدءا من عام 1991، محققة الفوز في انتخابات الأعوام 1996،1998، 1999،2004 ، 2009 . في جميع هذه الاستحقاقات رصد عنها أنها لم تستخدم قط المال أو الوعود الكاذبة أو اللعب على العواطف الدينية والثقافية والإثنية من أجل تحقيق طموحاتها. في 1991 عــُينت "بنيرجي" كوزيرة اتحادية للدولة للتنمية والموارد البشرية وشؤون الرياضة والشباب والمرأة والطفل، لكن شؤون الرياضة والشباب سـُحبت منها في 1993 بعدما خرجت بنفسها لتتظاهر مع الرياضيين المطالبين بتحسين أوضاعهم. أما في 1996 فقد زعمت أن حزب "المؤتمر" يداهن الشيوعيين الحاكمين في ولاية البنغال الغربية ويتستر على خروقاتهم طمعاً في تمرير بعض القوانين في البرلمان الاتحادي من دون اعتراضهم. ويـُقال إن هذه المزاعم كانت وراء انفصالها عن حزب "المؤتمر"، وتحمسها لتأسيس حزبها الخاص في 1997 ليصبح هذا الحزب سريعاً قوة المعارضة الرئيسية للشيوعيين في البنغال الغربية.وربما لهذا السبب اختارها "التحالف الديمقراطي القومي" بقيادة حزب "بهاراتيا جاناتا" في 1999 لشغل حقيبة السكك الحديدية، وهي الحقيبة الوزارية التي أثبتت "بنيرجي" من خلالها أنها صاحبة كفاءة ونزاهة. أما النزاهة فقد تجسدت من خلال تقديمها لميزانية خلت من الإنفاق على مشاريع للسكك الحديدية داخل ولايتها كي لا يقال إنها تفضل الإنفاق على مسقط رأسها من أجل دواع انتخابية، مقابل تركيز الإنفاق على مد خطوط حديدية ما بين المدن الرئيسية والمنتجعات الجبلية في الشمال من أجل تشجيع السياحة، وبالتالي تعزيز الدخل القومي.