مثّل التدخل الأوروبي في ليبيا فرصة عملية، كانت القارة في حاجة إليها، لإثبات قدرة دولها على التأثير في الشؤون الدولية، لكن ما حصل هو أن التعامل الأوروبي مع الموضوع الليبي أضعف صدقية ما يقال عن أن الاتحاد الأوروبي لديه القدرة أو الرغبة في انتهاج سياسية أمنية وخارجية موحدة. فمثلاً مازالت النمسا وفية لتصوراتها القديمة وتقاليدها السابقة عن كدولة محايدة مستحضرة واقع يرجع إلى ما بعد 1955، وهي المشاعر نفسها التي يتبناها الألمان رغم الضغوط الأميركية والأطلسية عليها للتحول إلى مساعد عسكري دائم للولايات المتحدة. ومع أن الألمان والنمساويين وجزءاً كبيراً من الأوروبيين، يلحظون القوة الأوروبية على الصعيد الاقتصادي ويلمسون غيابها سياسياً، فإنهم لا يجدون غضاضة في الامتناع عن المشاركة في الحروب والتفرج من بعيد. وبالرجوع إلى التدخل الأوروبي في ليبيا، فقد انخرطت القوى الأساسية في العملية العسكرية وصعّدت من وتيرتها مؤخراً وسارت في طريق تعزيزها بعدما أغرقت القوات الجوية البريطانية الأسطول الليبي لما رأته من تهديد يمثله على عمليات الإغاثة الإنسانية على شواطئ المتوسط، هذا في الوقت الذي تعرض مقر قيادة القذافي في طرابلس لقصف مستمر من طائرات "الناتو". ولم يتأخر الفرنسيون الذين كان لتدخلهم الجوي والبحري دور كبير في إنقاذ بنغازي ومنع سقوطها في أيدي كتائب القذافي. واليوم ترسل فرنسا سفينة حربية على متنها عشرات المروحيات لمواصلة القتال وضرب الأهداف بدقة أكبر. ولا ننسى أن فرنسا وبريطانيا أرسلتا قواتهما الخاصة إلى ليبيا لمساعدة الثوار وجمع المعلومات، كما أرسلت فرقاً خاصة لتحديد الأهداف ومساعدة الثوار في إدارة الحرب. وقد تحول التدخل في ليبيا اليوم إلى عملية عسكرية حقيقية تشارك فيها فرنسا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى، فضلًا عن بلدان عربية انخرطت في الحرب التي أصبحت عملية واضحة لتغيير النظام وليس فقط لحماية المدنيين. ولم يعد الاتحاد الأوروبي الآن متردداً في الاعتراف بشرعية المجلس الانتقالي الليبي الذي يمثل الذراع السياسي للثورة، بل فتح الاتحاد مكتباً له في بنغازي، بالإضافة إلى الزيارة التي قامت بها ممثلة السياسة الخارجية لاتحاد الأوروبي، كاثرين آشتون، إلى بنغازي مؤخراً. لكن مع ذلك لا يمكن اعتبار التدخل العسكري في ليبيا عملية أوروبية موحدة، إذ لا أحد في أوروبا خطط لها ولا يعرف إلى أين ستنتهي، فبعد تدخل فرنسا أولًا في بنغازي لمنع سقوطها، ودعم البريطانيين لهم، جاء لاحقاً الدور الأميركي متردداً وبطيئاً لتنسحب واشنطن من القيادة مبقية على صواريخها وبعض الطائرات من دون طيار وبعض الدعم اللوجستي للناتو. ويبدو أن مستشاري أوباما نصحوه بعدم التورط في حرب جديدة ضد بلد إسلامي، في حين لم تنته بعد المغامرة الأميركية في العراق وأفغانستان، علاوة على رفض الأميركيين تعريض جنودهم للخطر. إلا أن ما يهمنا هو تداعيات التدخل الأوروبي على الجهود المبذولة من قبل دول الاتحاد لصياغة سياسة أمنية وخارجية متماسكة تعبر عن الجميع. ولتحقيق ذلك نرجع إلى لشبونة قبل 18 شهراً لبلورة سياسية أوروبية موحدة في الخارجية والأمن، والتي مازالت حتى اللحظة الحالية غير موجودة، رغم مرور سنوات على قيام الاتحاد الأوروبي. لكن جرياً على قاعدة بيروقراطية معروفة تدعو إلى خلق المنصب أولا وترك مسألة البحث عن المهمة لاحقاً، شرعت البلدان الأوروبية في تشكيل هياكل للسياسة الخارجية الموحدة، رغم التأكد من استحالة ذلك، فجميع المشاركين في اجتماع لشبونة، ما عدا بعض المتحمسين، كانوا يعرفون جيداً أنه لا مجال لسياسية خارجية أوروبية موحدة، وذلك لغياب أي هدف حقيقي، أو لعدم وجود تبرير مقنع لها باستثناء الدفاع عن الرفاه الأوروبي الحالي. فقد تجاهلوا مثلًا أن أي محاولة أوروبية لوضع بصمتهم على الشؤون الدولية من خلال سياسة خارجية مستقلة وموحدة، ستواجه برفض أميركي، كما أن القوتين الأوروبيتين الأكثر خبرة ودراية، وهما فرنسا وبريطانيا، لن تسمحا بأي منافسة لسياستهما الخاصة، وستعملان على تعطيل أي مسعى في هذا الاتجاه. أما باقي الأعضاء فلم يدعموا أبداً سياسة خارجية موحدة للاتحاد الأوروبي تتجاوز العبارات المسكوكة بشأن تعزيز التعاون المشترك وغيرها، وافتراض أعداء وهميين لأوروبا! وفي اعتراف ضمني بلا جدوى البحث عن سياسية خارجية موحدة، وخلق المؤسسات اللازمة لاحتوائها، عينت على رأس مؤسسة السياسة الخارجية امرأة كانت تتولى منصباً هامشياً في حزب العمال البريطاني، علماً بأنها مجهولة تماماً في أوروبا والعالم. ومع أن العديد من الدول الأوروبية والمراقبين ينتقدون كاثرين آشتون على فشلها في التأثير على الشؤون الدولية وفي إبراز الدبلوماسية الأوروبية على الساحة العالمية، فإنه من الإجحاف تحميلها أكثر مما تحتمل، إذ حتى لو جيء بتشيرشل نفسه لما استطاع توحيد السياسة الخارجية لسبعة وعشرين دولة... لتبقى خلاصة القول هي أن الحضور الأوروبي سيظل مستمراً في العالم، لكن ليس جماعياً، بل من خلال المبادرات الوطنية لكل دولة على حدة كما يثبت ذلك التدخل الأوروبي في ليبيا الذي تقوده دولتان: فرنسا وبريطانيا. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفسز"