قبل اندلاع تحولات يناير في مصر كان هناك تحسر على ما فات في عهد مصر السابق، ما قبل ثورة 1952. كان هناك حنين إلى الماضي قبل الثورة، وشوق إلى الليبرالية، والتعددية الحزبية، وحرية الصحافة واستقلال المؤسسات العلمية والدستورية، والحفاظ على الدستور على رغم بعض محدداته مثل دستور 1923 وما قد يقال من أنه كان منحة من الملك. وكانت السودان آنذاك في أذهان البعض، لا تنفصل عن مصر، فالملك هو ملك مصر والسودان. وقال أحد الزعماء الوطنيين "تقطع يدي ولا أوقع على انفصال السودان"، ونحن نشاهد الآن انفصال الجنوب، وقضية دارفور وتمزيق السودان. وكانت حدود مصر مفتوحة مع العرب بلا تأشيرات دخول. وكان هذا العهد هو العصر الذهبي في الشعر والأدب والفن والفكر، عهد شوقي وحافظ والبارودي، وسيد درويش ومختار وعبدالوهاب وأم كلثوم، وهيكل والعقاد، والمازني والمنفلوطي. وكانت بدايات نجيب محفوط روائيّاً في هذا العهد. وفي خضم هذا الحنين إلى الماضي والشوق إليه، حيث لا فرق بين الليبراليين والسلفيين، نسي الليبراليون بؤرة الفساد والتسلط والبوليس السياسي والاغتيالات. نسوا الاحتلال البريطاني الذي كان رابضاً على ضفاف القناة، وسبعون ألف جندي بريطاني في التل الكبير، شرق الدلتا. نسوا السجون والمعتقلات والتعذيب والاغتيالات. كان منطق ثورة يوليو 1952 هو القطيعة مع الماضي. وقد أطلق عليه شعار "العهد البائد" إحساساً بالجدة والتحول من عهد إلى عهد، من الشر إلى الخير، من الإقطاع إلى الإصلاح الزراعي، ومن حكم الأقلية إلى حكم الأغلبية، ومن الرأسمالية إلى الاشتراكية، ومن الفساد السياسي إلى الحكم الوطني، ومن الاغتيالات السياسية إلى الحكم الوطني وتقدير الزعامات الشعبية، ومن باشوات مصر إلى الضباط الأحرار، ومن حكم الرجعيين إلى حكم الثوار. وتمت تصفية رجالات الحكم البائد، والتحول من أهل الخبرة إلى أهل الثقة! وتحقق هذا المنطق، القطيعة مع الماضي بحل الأحزاب، "الوفد" الذي سيطر على الحكم قبل 1952 ثم ا"لإخوان" بعد اتهامهم باغتيال عبدالناصر في 1954 والزج بهم في السجون، ثم ما حل بالشيوعيين في 1958. واتسع نطاق "جرحى الثورة" و"أعداء الثورة" و"الحاقدين" على الثورة. وتم القضاء على استقلال الجامعات والمؤسسات التعليمية. وألغيت التعددية الحزبية لمصلحة الحزب الواحد، الاتحاد الاشتراكي أو حزب مصر العربي الاشتراكي أو الحزب الوطني. وألغيت حرية الصحافة والإعلام. وتحولت الدولة الوطنية التي وقعت اتفاقية الجلاء مع بريطانيا في 1954، وساعدت معظم حركات التحرر الوطني في الوطن العربي، الجزائر واليمن، وفي إفريقيا، من النقيض إلى النقيض، من التعددية الحزبية إلى الحزب الواحد، ومن تعدد الزعامات إلى الزعيم الخالد، ومن الضباط الأحرار إلى ضباط مباحث أمن الدولة، والأمن المركزي بالخوذات والعصي، ومن سجون الإقطاع التي امتلأت برجالات الحركة الوطنية إلى سجون الثورة والضباط الأحرار التي امتلأت بالمعارضة السياسية. ونظراً لانفصال مصر عن تاريخها السابق واستحالة بدايتها من فراغ بعد القطيعة مع الماضي حتى مع الحركة الوطنية في الأربعينيات التي تكون فيها الضباط الأحرار فقد تعثرت الجمهوريات الثلاث التي تعاقبت على مصر منذ يوليو 1952. فقد اعتمدت الجمهورية الأولى على الزعامة المباشرة التي تجب المؤسسات السياسية والصحفية والدستورية ومنظمات الحكم المدني. وبمجرد أن انتهت هذه الزعامة بالموت القدري اعتمدت الجمهورية الثانية على المناورة وادعاء البطولة وبداية تكوين التعددية السياسية، المنابر ثم الأحزاب، وانتهت بعقد الصلح مع إسرائيل في معاهدة السلام 1979 على رغم حرب أكتوبر 1973، واعتبار أن 99.9% من القضية في أيدي الولايات المتحدة. ثم استمرت الجمهورية الثالثة فيما بدأته الثانية، تقوية العلاقات مع إسرائيل، وغلق معبر رفح، وإقامة الجدار الفولاذي العازل كما فعلت إسرائيل مع الضفة الغربية، وتأييد "فتح" على حساب "حماس"، والارتماء كلية في أحضان الولايات المتحدة. وكونت محور "الاعتدال" ضد محور "الممانعة". واعتمدت في الحكم على مجموعة من رجال الأعمال وسلطات الأمن. فتحولت الدولة إلى عصبة، والإعلام إلى مدح وتصفيق. وزيفت الانتخابات البرلمانية. وتم إعداد المسرح لسيناريو التوريث. فلم يعد يبقى من الثورة الأولى شيء. وبدأت علامات نهاية المرحلة كلها بعد نصف قرن أو يزيد، القهر، والفساد، وبدأت بشائر مرحلة جديدة في الظهور حركات المعارضة، مظاهرات العمال مثل "كفاية" و"9 مارس" التي انتهت بتحولات يناير 2011. لا يكفي فقط أن تكون تحولات يناير 2011 إكمالاً لثورة يوليو 1952 الحرية بالإضافة إلى العدالة الاجتماعية، ثورة الشعب التي أيدها الجيش بعد ثورة الجيش التي أيدها الشعب، ثورة الجماهير في الشوارع بعد ثورة الضباط الأحرار في المعسكرات والاستيلاء على وزارة الحربية والإذاعة والتلفزيون. المجلس العسكري الصامت الذي يعمل باسم الجماعة وليس باسم أعضائه بعد مجلس قيادة الثورة المتحدث الذي يتحدث كل عضو فيه باعتباره خطيباً وزعيماً فنشأت الصراعات بينهم. المهم أيضاً إعادة مصر إلى مسارها الطبيعي، وربط تاريخها الثوري المعاصر الذي انقلب إلى ثورة مضادة بتاريخها الليبرالي الحديث منذ تأسيس الحركة الوطنية المصرية الحديثة منذ ثورة عرابي في 1882 حتى ثورة 1919 وربما أكثر من ذلك في تاريخ مصر الحديث منذ تأسيس محمد علي للدولة المصرية الحديثة وتنظير الطهطاوي لها، ورغبة محمد علي في خلافة مصر لإسطنبول والدولة المصرية الحديثة للإمبراطورية العثمانية التي شارفت على النهاية، واستئناف مصر لدورها في قيادة حركة التحرر العربي والقومية العربية منذ يوليو 1952. دور مصر الآن هو عودتها إلى تاريخها، والتواصل بين عهدين: مصر الليبرالية قبل 1952 ومصر الاشتراكية بعد 1952، بين مصر الوطنية قبل 1952 ومصر القومية بعد 1952. دورها التأكيد على الاستمرارية في تاريخ مصر وليس القطيعة. فلا تعارض بين الشوق إلى الحرية والتطلع إلى العدالة الاجتماعية. لقد ازدهرت التعددية السياسية قبل 1952. وتعود الآن معترفة بالحركات السياسية بكافة أطيافها. تعتمد على استقلال المؤسسات وليس تبعيتها، والانتخابات الحرة وليس المزيفة، وحرية الفكر والإعلام دون تدخل السلطة. إذ يتم التغير من خلال التواصل وليس من خلال الانقطاع. ومراحل التاريخ ليست على التبادل بل على التكامل كما حدث في تاريخ الأنبياء. كل نبي يمثل مرحلة. وتتكامل المراحل طبقاً لتطور التاريخ، من البداية إلى النهاية، من الشريعة إلى المحبة إلى العدالة، من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام.