والمقصود بالطاغية هنا أي طاغية، قد يكون من طغاة العرب -وما أكثرهم- أو أي طاغية ضاق عليه الخناق، وتقطعت به سبل النجاة، وحاصرته ثورة شعبية عارمة أسقطت الخوف الذي بثه في قلوب شعبه، والرعب الذي غرسته أجهزته القمعية في نفوس الناس طيلة فترة حكمه الذي امتد عقوداً. وصل الطاغية للحكم. غير مهم كيف وصل، لكن الأكيد أنه لم يصل بطريقة شرعية، ولم يكن قاربه للسلطة إرادة شعبية، كانت بداياته دامية مشوبة بالتردد، وكانت وعوده بتحويل بلاده إلى واحة غناء للديمقراطية والحرية والكرامة والاشتراكية والبناء والعدالة والمساواة هي شغله الشاغل، يلهج لسانه بتلك الوعود في كل خطبه، ويرددها الإعلام الرسمي الذي بدأ بالتحول نحو ترجمة تلك الوعود والخطب إلى شعارات رسمية، وبرامج متكررة لبرنامج هذا الرجل العظيم الملهم الفذ العبقري الرائع الذي لم تنجب النساء قبله، ولن ينجبن شاكلته من بعده. وشيئاً فشيئاً، يختزل الإعلام في شخص الرئيس: قال الرئيس، ومن كلمات الرئيس، ومن خطب الرئيس، ومن روائع الرئيس، ومن تحف الرئيس، وبدأ يكتشف الرئيس عبر إعلام الدولة -أو إعلامه لا فرق- أن لديه مواهب لا حصر لها، وبأنه لم يكن يدرك تلك المواهب وينميها قبل الوصول إلى الحكم. الرئيس إنسان فنان ومعلم ومهندس وطبيب ومفكر ومنظر وباني "نهضة" بلاده الحديثة. لكن هذه النهضة الباهرة في عهد الرئيس لها أعداؤها وحسادها، وهناك من يتربص بها دوماً من الخارج، ولذلك فإن بناء القوات المسلحة وأجهزة الأمن ضرورية لحماية هذا القائد العظيم، وحيوية للحفاظ على هذه المنجزات العظيمة. أصبحت لدى الرئيس قناعة راسخة بضرورة تكريس الإعلام والأمن والجيش لحماية البلاد -حماية الرئيس، فماذا تكون البلاد بدون هذا الرئيس الفذ؟ ويتطور الأمر لخلق أجهزة أمن خاصة مهمتها حماية الرئيس، وتتضخم تلك الأجهزة لتصبح أقوى نفوذاً وقوة من الجيش النظامي نفسه. من يدري؟ فقد يكون بين قطاعات الجيش مندسون يتربصون بالبلد -الرئيس. لقد تحول البلد إلى الرئيس، بل أصبح الرئيس هو البلاد برمتها وشعبها وشوارعها ومدنها ومسارحها وملاعبها ومدارسها وجامعاتها وكل ما فيها مرتبط ارتباطاً عضويّاً لا فكاك منه مع الرئيس. وكان كل شيء يسير بشكل تام: الرئيس هو البلد، والبلد هو الرئيس. وفجأة ثار الشعب، ومزق قناع الخوف، وانتزع قيد الهلع من النفوس، وتساقط الشباب كفراش ينتحر جماعيّاً أمام نار الحرية، أجهزة الأمن والجيش والإعلام في مواجهة الشعب، الشعب -كل الشعب- يخون بلاده، واكتشف الرئيس أن الشعب مجموعة من المندسين الخونة يحاولون الانقضاض على شرعية البلاد -الرئيس، ولذا فعلى الدولة -الرئيس حماية الدولة. الدماء تسيل أنهاراً، والقتلى بالآلاف والجرحى أضعافاً والمعتقلون والمشردون أعدادهم لا تحصى. السفراء أعلنوا براءتهم من الرئيس، والوزراء استقالوا أو انشقوا وهربوا، وحزب الرئيس الطليعي الفريد من نوعه أصدر صك براءة وإخلاء ذمة، والجيش بدأ بالتمرد، لكن الرئيس لا يعرف غير السلطة، لقد أمضى بها عقوداً ولا يجيد عملاً آخر غير أن يكون دولة بكامل عدتها وعتادها وشعبها. تضيق الدائرة، ويقل المؤيدون، ويتكاثر الشك، وتحيط بالرئيس الوساوس، وتتلبسه أوهام المؤامرة التي بدأها شعبه المندس داخل بلاده، وانتقلت عدوى المندسين إلى أقرب المقربين منه. الهرب مستحيل، والاستسلام وتسليم السلطة يعني محاكمة الرئيس: أي شعب هذا الذي يحاكم دولته -أو رئيسه- لا فرق؟ فلسنين طويلة كان الرئيس متوهماً قناعة أنه البلاد والعباد والشعب والأرض والكرامة والاقتصاد والسياسة والحرب والسلم جميعاً... انتهت قصة الطاغية. المشهد متكرر بدموية مخجلة، والطغاة يرحلون، والشعوب باقية...