لست من الذين يعتقدون بأن المعلومة يمكن عرضها مجاناً على المستهلك، وأشك أيضاً في أنها كيان قائم بذاته ومستقل عن منتجه، والأكيد أنها لا تريد، كما يسعى البعض إلى إقناعنا، بأن تكون مجانية. والأمر هنا لا يقتصر على المعلومة بل يتجاوزها إلى باقي المنتجات والخدمات، مثل السيارة والمنزل اللذين يتعين دفع ثمنهما قبل الحصول عليهما. أما بالنسبة للذين يقرنون مجانية المعلومة بتحريرها ونشرها، فإنهم فعلاً لا يريدون أداء كلفتها، سواء أكانت تلك المعلومة أخباراً في الصحف، أم أفلاماً سينمائية، أم موسيقى، أم غيرها. والمؤسف أن الشركات الكبرى التي بنت صيتها وثراءها على توزيع مجاني للمعلومة، من أشد المدافعين عن مجانيتها! فمن المعروف أن إنتاج معلومة على مستوى جيد، من موسيقى وأخبار وسواها، يكلف الكثير. ومع أن أشخاصاً مثلي يكتبون ليس من أجل المال بل فقط لعرض الأفكار والتأثير في السياسات العامة من خلال نشر الوعي، إلا أنه إذا كنا حريصين فعلاً على صحافة استقصائية قوية وعلى أخبار دقيقية ومكتوبة بحرفية عالية وتغطية واسعة وشاملة للأحداث، فإنه علينا تقبل فكرة الدفع مقابل الحصول عليها. فإنتاج المعلومة الجيدة يتطلب عملاً مضنياً وجهداً متواصلاً، بحيث يتعين إجراء البحث الضروري والاستقصاء والتحقق من صحة المعلومة والحقائق، وعلى الصحفيين والمحررين أن يخضعوا للتدريب المستمر لصياغة جملهم وصقل أسلوبهم، كما أن أي نشر لن يكون جيداً إلا بعد جهد يُبذل في اختيار الجمل وترتيب الفقرات واستخدام متأنٍ للغة ومفرداتها. والأهم من ذلك تأتي الحاجة إلى الدفع مقابل المعلومة ليس فقط لكلفتها المرتفعة، بل لقيمتها الذاتية، وهو ما عبر عنه "ستيوارت براند" في عام 1987 عندما تحدث عن التوازن المطلوب بين الرغبة في نشر المعلومة وإتاحتها للجميع وبالتالي عرضها مجاناً، وبين ما تستحقه تلك المعلومة من قيمة معنوية تفرض أموالاً للحصول عليها. لكن يبدو أن هذا التوازن بدأ يختل في أيامنا هذه لأن الدخل الضعيف لتغطية التكاليف يعني وفقاً للمنطق الاقتصادي ضعف الإنتاج، بل احتمال توقفه النهائي، إذ لا يُتوقع الاستمرار في الإنتاج تحت واقع الخسارة، وهو ما يحدث على الساحة الإعلامية التي بدأت تقلص محتوياتها ويتراجع مستواها بعدما لجأت العديد من المنابر الإعلامية إلى الحد من تغطياتها وإغلاق مكاتبها والاعتماد على صحفيين وكتاب يكتفون بنشر أسمائهم، أو لديهم أهداف مثالية لا تكترث بالمال. ولعل ما يفاقم هذه الحالة لجوء العديد من المؤسسات الداعية إلى عرض المعلومة مجاناً إلى تحميل الآخرين دفع كلفة إنتاجها، وهو أمر سهل في عالم الإنترنت المترابط، ففي حالة الشركات الكبرى، مثل "جوجل" و"ياهو"، تقوم بعرض الأخبار التي تجمعها من آخرين وتتيحها مجاناً للمتصفح، فيما تجمع الأموال من العائدات الإعلانية، هذه العملية تضع عبء إنتاج الأخبار على المؤسسات الصحفية والإعلامية المحترفة التي يكون عليها دفع أجور الصحفيين والبحث عن المعلومة كي تستفيد منها شركات الإنترنت ومحركات البحث مجاناً. ومع أن ذلك لا يعني أن تلك الشركات خرقت القانون، إلا أنها استفادت من عصر الإنترنت لطرح مواد لم تساهم في إنتاجها. لذا حان الوقت لإعادة طرح المعلومة في السوق، فما لم نضع آلية تساعد منتجي المعلومة على استعادة تكلفة طرحها للناس فإن هذه المعلومة ستختفي تدريجياً ليكون الخاسر الأكبر في حالة الإعلام والأخبار والتحقيقات الاستقصائية المجتمع وقيمه الديمقراطية التي تقوم على كشف المستور وفضح التجاوزات والحديث عن الاختلالات المجتمعية. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى بعض التجارب الرائدة، مثل ما أقدمت عليه صحيفة "وول ستريت جورنال" التي طرحت محتوياتها ذات القيمة الإعلامية العالية والمقالات التحليلية الرصينة في نسختها الإلكترونية بسعر 99.3 دولار في الأسبوع، وهو ما يتعين تعميمه على باقي المنابر الإعلامية التي تنتج محتوى إعلامياً مهماً. وقد بدأت مؤخراً "نيويورك تايمز" تسير على نفس المنهج عندما فرضت على قرائها المنتظمين رسوماً للاطلاع على بعض موادها، لكن فيما عدا المؤسسات الصحفية، يمكن لمحركات البحث وشركات الإنترنت الأخرى التي تعرض محتويات الصحف مجاناً المساعدة من خلال وضع آلية تجعل القارئ يدفع مقابل الأخبار المعروضة. ويمكن أيضاً فتح أرشيف الصحف وربطه بتلك الشركات على أن تفرض رسوماً على المستفيد. ويبقى في النهاية أن يقتنع الفاعلون في المجال الاقتصادي، وخصوصاً الشركات المستفيدة من العالم الافتراضي، بقيمة المعلومة، سواء أكانت موسيقى أم أفلاماً أم أخباراً وتحقيقات صحفية... وضرورة دعمها للاستمرار في إنتاج محتوى قيم. وبدلاً من الترويح لمجانية المعلومة التي تلجأ إليها بعض المنابر، والتي تخفي في العمق رغبة في الحفاظ على مصالحها المالية ورقم معاملاتها المرتفع، فإنه لابد من تحمل مسؤولية إنتاج المعلومة وإبداء اهتمام أكبر بمستقبلها. فقد يأتي يوم تختفي فيه الأخبار الرصينة، ويتراجع فيه مستوى المحتوى الصحفي، ويتوقف الموسيقيون عن إنتاج الأسطوانات والسينمائيون عن نسخ أفلامهم... فقط لأنها معروضة مجاناً أمام المستهلك ولا توفر من الأموال ما يتيح الاستثمار في تطويرها. بيل ديفيدو كاتب أميركي متخصص في القضايا الإعلامية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"