لا يمكن فهم حالة الضعف والتأخر التي يعاني منه العالم العربي إلا من خلال وعي شامل بحالة الخلل الإشكالي الذي خلقه التدخل الخارجي في الوطن العربي، سواء خلال حقبة الاستعمار أو في مرحلة ما بعد الاستعمار. فالعامل الخارجي ساهم بشكل رئيسي في تقسيم الوطن العربي وعمل على تجزئته بعد الحرب العالمية الثانية، وقبلها من خلال اتفاقية "سايكس -بيكو" التي كانت اتفاقاً سرياً متمماً لاتفاق رئيسي بين بريطانيا وفرنسا وروسيا على تقسيم السلطنة العثمانية والاستيلاء على المشرق العربي وتقسيمه إلى كيانات سياسية. وقد اكتسبت هذه الاتفاقية اسمها من وزيري خارجية فرنسا (جورج بيكو) وبريطانيا (مارك سايكس) اللذين وقعاها وأشرفا على المراسلات السرية بشأنها. كما كان التدخل الخارجي الأوروبي عاملاً أساسياً في إفشال النهضة العربية الحديثة التي ظهرت طلائعها الأولى مع محمد علي باشا في مصر، ولم تلبث أن أخذت تدب في باقي جسد الوطن العربي، كأفكار وتطلعات وكممارسات أيضاً. بعض الدراسات التي تطرقت إلى إشكالية التخلف والتنمية في الوطن العربي، أغفلت تأثير العامل الخارجي في مفاصل التنمية العربية. لكن بنظرة سريعة لتاريخ التجارب التنموية العربية، يتبين لنا أن غالبية نتائجها تشير إلى مثل ذلك الخلل الإشكالي، لاسيما مع التدخلات التي عرفتها الكثير من البلاد العربية، في صور مختلفة للقوة، سواء أكانت خشنة أم ناعمة، وعملت على تكريس حالة الاستلاب الحضاري، لاسيما بعد اتفاقية "سايكس بيكو". وقد تعمقت هذه السياسة الأوروبية وولدت معها شكلاً جديداً من الهيمنة ساعد على امتصاص كثير من ثروات العالم العربي وموارده. وهو أمر ناقشه المؤرخون، وأبرزوا أن ذلك النهب لم يتوقف عند امتلاك خيرات البلاد العربية، بل تمثل أيضاً في أنواع القمع الجسدي والفكري والنفي الخارجي بحق الزعماء والكفاءات والنخب الوطنية القادرة على الاطلاع بأعباء النهضة. كما شمل إنهاك اقتصادات البلاد العربية وتدمير هياكلها الصناعية وتشويه مجتمعاتها وثقافتها. وقد بلغ هذا التدمير مداه في العديد من البلاد العربية التي وجدت نفسها بعد مرحلة النضال التحرري الذي أوصلها لاستقلالها الوطني، وهي تعاني من انهيار شامل، وقيود تحد من قدرتها على إحداث تحول صناعي يلحقها بالأمم التي سبقتها. فقد أصبح استقلالها مخترقاً بالضغوط والتدخلات الخارجية. ورغم نزعة الإصلاح التي رافقت المد القومي الوطني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومثلت منعطفاً تاريخياً مهماً، فإن ذهنية الاستعمار الجديد كانت تقف ضد أي وحدة عربية أو تكامل إقليمي يخدم آمال النهضة العربية ويدفعها لتحقيق أهدافها. وهنا نشير إلى ثلاثة عوامل: أولها السياسات المهيمنة من خلال المؤسسات المالية والمصرفية العالمية، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين. وثانيها نشوء طبقة جديدة في البلاد العربية ترتبط فكرياً بالقوى العالمية ومؤسساتها. أما العامل الثالث والأخير فهو اتساع الهوة بين الوضع الصناعي والمعرفي للعالم العربي وبين ثورة الغرب الصناعية والمعرفية وتقدمه التقني والعسكري غير المسبوق. وهكذا تمكن العامل الخارجي من دفع العالم العربي نحو التبعية وجعله غير قادر على تحقيق الاستقلال الذاتي الذي يبلّغه النهضة المنشودة.