لم يفلح العنف المضاد في وأد الجماعات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة أو تحجيمها وإضعافها إلى الدرجة التي تخرجها من حيز الفاعلية إلى هامش الخمول والخمود، الذي تفقد فيه القدرة على تعبئة تابعيها وتجنيد غيرهم، وتعجز عن تحدي السلطات والحكومات، سواء عبر الخطاب والرموز أو من خلال الحركة في الواقع، التي تبدأ من "المنشورات" المعادية لتنتهي عند ارتكاب أعمال العنف في أقصى صورها. وطيلة العقود التي خلت والحركة الإسلامية الراديكالية تسير بشكل حلزوني، يتشكل من حلقات متتالية، كلما تقدمنا في الزمن، وهي إن هبطت أو تراجعت إلى الخلف بفعل الضربات الأمنية الكاسحة، فإنها تدخل مرحلة كمون، تقصر أو تطول حسب الأحوال، ثم تعود، إما على اسمها القديم وهيئتها السابقة، أو في صورة جماعات جديدة، تحمل أسماء أخرى، ويتزعمها قادة آخرون، ولكنها تتبنى الأفكار نفسها، وتقدم على التصرفات ذاتها، وكأن شيئاً لم يحدث. وهذا النمو للإسلاميين، المصحوب بعودة بعضهم إلى المربع الأول في الفكر والحركة، جعل بعض الحكومات العربية على اختلافها، تقتنع بثلاثة أمور رئيسية، أولها أن هناك ضرورة لعدم ترك المجال الديني بمعناه الواسع حكراً على الجماعات والتنظيمات السياسية التي تتعامل مع الإسلام بوصفه أيديولوجية سياسية، تساعدها في كسب الشرعية والتمدد الاجتماعي وتبرير سلوكها وتفسيره. ومن ثم فإن الحكومات العربية تزاحم الحركات الإسلامية في استغلال الحيز الديني، بل تصارعها من خلال تبني خطاب ديني مضاد، أو إنشاء كيانات موازية تنتج مثل هذا الخطاب وترعاه، وتسعى في الوقت ذاته إلى تعبئة قطاعات من الجماهير حول السلطة، ودحض أية اتهامات ترمي بها الجماعات الإسلامية النظم الحاكمة لتصورها بأنها نظم مغالية في العلمانية وتعمل ضد الدين، أو لا تعطيه وزنه الحقيقي في برامجها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. والأمر الثاني هو دخول بعض الأنظمة العربية في حوار مع الجماعات الإسلامية المعتدلة، وتمكين بعضها من الاندماج في الحياة السياسية المدنية، عبر تكوين الأحزاب والمشاركة في النقابات المهنية والجمعيات الأهلية. وهذا التصرف الذكي يهدف إلى تحويل هذه الجماعات إلى قوة مضافة وإيجابية، وقطع الطريق على تطرفها، أو لجوئها إلى العمل تحت الأرض، وتخطيطها لارتكاب العنف ضد السلطة والمجتمع. أما الثالث فهو فتح الباب أمام الجماعات المتطرفة للعودة عن نهجها العنيف، والتوبة مما ارتكبته في الماضي من أعمال يجرمها القانون ويحرمها الشرع الحنيف، ومراجعة الأفكار والأطر والتخريجات الفقهية التي بررت لها العنف، وصورت لها المختلفين معها في الرؤى على أنهم فاسقون أو جاهلون أو كافرون، وجب الضغط عليهم، بدءاً من النصيحة وانتهاء بالقتل. وقد بدأت محاولات إقناع المتطرفين الإسلاميين بالتخلي عن أفكارهم ومراجعة مواقفهم مع محاكمة "جماعة المسلمين" المعروفة أمنيّاً وإعلاميّاً باسم تنظيم "التكفير والهجرة"، فقد دخلت هيئة المحكمة في حوار فقهي عميق مع أفراد هذه الجماعة لتفنيد آرائهم وفضح مواقفهم وتعريتهم أمام الرأي العام. وكان الهدف من هذا الحوار، ليس فقط الوقوف على أفكار هذه الجماعة بما يظهر مخالفتها للقانون، بل هزيمتها فقهيّاً، بما يخلع عن تصوراتها البريق الذي كانت تحمله وقتها، من جرأة على السلطة والمجتمع، وتقديم حلول بسيطة لبعض المشاكل الاجتماعية، وجني فضائل المغامرة، أو إتاحة الفرصة للتمتع بلذة العيش في خطر، التي يرومها بعض الشباب. ولكن هذه المحاولة تكسرت أمام إصرار شكري مصطفى وأتباعه على مواقفهم، وأمام أوهامه التي صورت له حتى لحظة صعوده إلى المشنقة أنه نبي آخر الزمان، ولذا لن يستطيع أحد أن ينال منه، وأن أفكاره ولدت لتعيش وتنتشر، لأنها تحاط بحماية الله ورعايته. والخطوة الثانية تمثلت في حملات الوعظ والإرشاد التي رعتها السلطات المصرية أيام حكم مبارك وقامت على أكتاف رجال من الأزهر والأوقاف، وتوجهت مباشرة إلى "الجماعة الإسلامية" التي نشطت بشكل ملحوظ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن المنصرم حتى أصبحت تشكل تحديّاً كبيراً للنظام الحاكم. وكانت هذه الحملات تستهدف سجناء الجماعة وطلقاءها على حد سواء، لكنها لم تثمر شيئاً ذا بال، فـ"الجماعة الإسلامية" كانت وقتها تعيش بشكل ظاهر، وكانت تتوهم أن بوسعها أن تصل إلى السلطة في زمن يسير، ولذا تعاملت مع مسألة الوعظ هذه باستهتار شديد. كما أن أغلب من قاموا بعملية الوعظ هذه كانوا مرتبطين بالسلطة، أو غير مشهود لهم بالكفاءة الفقهية والاستقلالية والنزاهة والورع. ولكن الجماعة تفاعلت بإيجابية مع هذا الحوار بعد هزيمتها في الصراع المسلح ضد السلطة، الذي امتد من عام 1988 إلى عام 1997، ثم افتقادها التعاطف الشعبي بعد امتداد عنفها إلى المجتمع، فضلاً عن شعور قادتها بأنهم قد يقبعون في السجن حتى توافيهم المنية، في ظل قانون الطوارئ الذي لا يحترم انقضاء فترات محكومية السجناء السياسيين، ممن ترى السلطة أن تواجدهم طلقاء بين الناس يشكل خطراً جسيماً عليها. وتجلى هذا التفاعل الإيجابي في المراجعات التي أعلنها قادة الجماعة، وتضمنتها كتيبات ستة، صدرت عن دار نشر مصرية، وخرجت إلى الناس، ليقرؤوها، ويكتشفوا من ثنايا سطورها أن "الجماعة الإسلامية" تخلت عن أفكارها القديمة التي حواها كتابها الأساسي "ميثاق العمل الإسلامي" الذي أصدرته في مطلع الثمانينيات، وعرف الناس منه إطارها الفكري والفقهي، وأهدافها، ووسائل عملها. واتبعت المملكة العربية السعودية النهج نفسه في التعامل مع بعض المتطرفين، ففتحت الباب لهم للتوبة، والعودة إلى الحياة الطبيعية، وترك التنظيمات التي تمارس العنف باسم الإسلام، وفي مقدمتها تنظيم "القاعدة". ووصل الأمر إلى ذروته في البيان الذي أصدره قبل أربع سنوات منظر وفقيه "القاعدة" الأول، سيد إمام عبدالعزيز، المعروف باسم الدكتور فضل، من أحد السجون المصرية، وطرح فيه مبادرة تحرم التوسع في القتل باسم الإسلام، وتستنكر إزهاق الأرواح على خلفية الجنسية أو اللون أو المذهب، وترفض استحلال أموال المعصومين، وتخريب الممتلكات. وفي كل الأحوال فإن ترك باب الرجوع مفتوحاً أمام المتطرفين ليندمجوا في المجتمع من جديد، مصحوباً بتمكين "الإسلاميين" المعتدلين من العمل في إطار الشرعية السياسية والمشروعية القانونية، يفيد كثيراً في تضييق دروب التطرف، بعد أن أظهرت الحلول الأمنية الصرفة عجزها عن وضع حد له.