لم يعد الفيسبوك مجرد موقع إلكتروني ضمن ملايين المواقع السابحة على أثير الشبكة العنكبوتية، بل لقد أصبح أسلوباً خاصاً في الحياة. شئنا أم أبينا، فقد أخذت مواقع التواصل الاجتماعي، والتفاعل، والدردشة، والاتصال، وغيرها من أشكال الإعلام الجديد، تغير عادات الناس وطريقتهم في التفكير والتدبير. كيف لا وقد بلغ عدد المشتركين وأصحاب البروفايلات في عالم الفيسبوك ما لا يقل عن 600 مليون نسمة، هم أعضاء جمهور نهم جدّاً لكل ما له علاقة بثقافة هذا الموقع الذي أطلقه مارك زوكربيرج سنة 2004. إنه جيل كامل صاعد، في المجتمع الإنساني اليوم، آتيّاً بقيمه ومفاهيمه المبتكرة، واستراتيجياته الجديدة في تسمية العالم وفهم الأشياء. وهي قيم تقلب كل معهود ثقافات ومستقر عادات العلاقات الإنسانية كما عرفناها منذ فجر التاريخ. إنه انقلاب ثقافي، بالمعنى الفني للكلمة، وتحول حقيقي، وبسرعة رقمية، في كل الأنساق التصورية والقيمية. وقد قال مؤسس الموقع نفسه محقاً، ذات يوم، إن "الفيس قد غير القيم الاجتماعية". هذا ما يذهب إليه مؤلفا الكتاب الذي نقترح هنا قراءة موجزة في مضامينه، وعنوانه: "قتلني الفيسبوك" للمؤلفين الفرنسيين ألكسندر ديزينارد وتوماس زوبر، وهو عنوان يستدعي في أذهان قرائهما الفرنسيين خاصة، دون شك، كتاباً آخر أصدراه قبل سنة تحت عنوان: "قتلني الفضاء المفتوح"، وقد حقق الكتابان معاً رواجاً منقطع النظير، بسبب جدة وراهنية واستكشافية الموضوع الذي طرقاه بجرأة، وبقدر من الأصالة والابتكار، لا تخطئه الملاحظة، وخاصة أن هذا الميدان وإسقاطاته السوسيولوجية والنفسية المعقدة ما زال غير مطروق في أوروبا، في حين تحول العديد من علماء الاجتماع في أميركا، منذ سنوات، لدراسة ظاهرة شبكات التواصل الاجتماعي. ويرى الكاتبان أن جيل الفيسبوك اليوم يعاني، أكثر ما يعاني، من أعراض متلازمة فائض الاتصال والتواصل المفرط، المؤدية إلى أن يفقد المرء أخص خصوصياته الفردية، وهو سابح في عراء عالم من الانكشاف، أو مستغرق، عبر الفيسبوك، في الدعاية الفجة لنفسه بهدف خلق أسطورته الخاصة، من خلال إطلاع جمهور غير محدد، على الجوانب المشرقة فقط من مفردات حياته اليومية، بالتعليقات والصور، محولاً نفسه إلى "مراسل" للآخرين، داخل البيت، لينقل لهم على الهواء وبشكل "مباشر" جميع الحركات والسكنات والأحداث الشخصية والعائلية، وفي وقتها الحقيقي IRL، كل ذلك جرياً وراء وهْم الانتشار والإبهار، وإرضاء للغرور الذاتي بإمكانية وضع بصمته المميزة على الموقع، وإشراك الآخرين في غواية أسطورته الشخصية الخاصة. والحال أن فائض الارتباط والتواصل هذا جعل أفراد جمهور الفيسبوك في حالة انكشاف واضح، بل فاضح، لم تبق معها حاجة إلى وجود رقيب اجتماعي، أو مؤسسي من جهات الضبط، أو إلى "أخ أكبر" Big Brother، بعبارة الروائي جورج أورويل لكي يحشر أنفه في خصوصياتهم، لأن جميع "الأصدقاء" على قائمة صاحب البروفايل الفيسبوكي هم سلفاً "إخوة صغار" Little Brothers يحشر بعضهم أنفه في خصوصيات بعض آخر، على نحو أصبحوا معه وكأنهم جميعاً يؤدون أدواراً رديئة في حلقة مكررة من مسلسلات تلفزيون الواقع، أو كأنهم يعيشون في بيوت زجاجية شفافة، تلتقي فيها يوميات الواقعي بالافتراضي، ويقبع فيها الفرد تحت كشافات وكاميرات لاقطة حشرية، وبواقع 24/24 ساعة. ويذهب المؤلفان إلى أن متلازمة فائض التواصل، التي يعاني منها جمهور الفيسبوك، ما هي في الواقع إلا نوع جديد من عُقد النرجسية، ذلك أن أغلبية جمهوره سرعان ما يقع في فخ المشهدية والاستعراضية الأنانية وحب الظهور الشخصي ليستسلم مع مرور الوقت، شيئاً فشيئاً، لنوع من الانفصال عن العالم الحقيقي، ليندمج في مجتمع الفيسبوك غير الاجتماعي. نعم غير اجتماعي، لأن أقارب وأصدقاء الإنسان الحقيقيين في الواقع يتحولون بقدرة قادر إلى أصدقاء افتراضيين، ولذلك تتطاول مسافات ومواعيد التواصل واللقاء العياني معهم، في حين يتحول "الأصدقاء" الافتراضيون على الموقع، الذين لا يعرفهم المرء من قريب ولا من بعيد، إلى أصدقاء واقعيين، بل فوق واقعيين، لأنهم يطلعون على أخص خصوصيات حياته اليومية، بل اللحظية. والأنكى -وربما الأبكى- من هذا أن الفيسبوك يجعل الإنسان ينفصل أيضاً عن نفسه، فلا ينظر إليها إلا عبر مرايا الآخرين المحدبة، ليمضي بذلك سحابة يومه وهو يتملَّى شاشة الكومبيوتر ليرى صورة وجهه وصوره وأفكاره "الخلاقة" واختياراته "العبقرية" وانعكاسات كل ذلك في ردود فعل الآخرين، و"المعجبين"، و"الأصدقاء"، ضمن المجتمع النرجسي الفيسبوكي، الطويل العريض، تماماً مثلما كان "نرسيس" في الأسطورة القديمة يمضي، هو أيضاً، سحابة يومه وهو يتملَّى صورة وجهه منعكسة على صفحة مياه النهر! أما إذا اكتشفت كل هذا وفكرت في الانسحاب من عالم الفيسبوك فهناك أيضاً تدابير في انتظاره، حيث ستتحتم عليهم الإجابة بسبب مقنع في خانة خيارات إغلاق الحساب! والطريف أن من ضمن الأسباب المقترحة واحداً يقول: "لأنني أصرف وقتاً طويلاً على الفيسبوك"، وآخر: "لدي قلق بشأن الخصوصية"! ومع أن معظم من يقدمون على هذه الخطوة سرعان ما يتراجعون في آخر لحظة، ويعودون إلى إدمان الفيسبوك مجدداً، إلا أن هذين السببين المقترحين غالباً ما يكونان أيضاً صحيحين في الواقع، لتلازم الإبحار مع ضياع وقت كثيرين، وتحول حياتهم الخاصة إلى قطعة حقيقية من جحيمه الافتراضي. وبكلمة واحدة، لقد أصبح الفيسبوك، أحد أخطر "أسلحة العبث الشامل"، بحسب عنوان أحد فصول الكتاب، وهو -للأمانة أيضاً- عبث شامل، لا يقتصر على الفيسبوك وحده، بل ينسحب كذلك على كافة الاستخدامات السيئة لمختلف أشكال التواصل بالصورة والصوت... عالم شبكة العنكبوت! حسن ولد المختار الكتاب: قتلني الفيسبوك المؤلفان: ألكسندر ديزينارد وتوماس زوبر الناشر: نيل تاريخ النشر: 2011