تواجه باكستان العديد من التحديات ليس أقلها معضلة الإرهاب ومأزق الاستقرار السياسي، لكن لتقريب هذا الوضع غير المريح لصانع القرار في الغرب عادة ما تنبري الأقلام الغربية، كمراكز البحوث الأميركية، لرسم صورة تقريبية لباكستان بتفاصيل تنضح بالتعميمات السطحية أحياناً والأحكام المسبقة أحياناً أخرى. لذا يأتي الكتاب الذي نعرضه هنا، وعنوانه "باكستان... ما بعد حالة الأزمة"، لمجموعة من الأكاديميين والخبراء الباكستانيين وبتحرير من الدكتورة "مليحة لودهي"، الصحفية والدبلوماسية الباكستانية، لتوضيح العديد من المعطيات حول البلاد وتقديم قراءة موضوعية متجردة من المخاوف والأجندات الأجنبية، فالكتاب عبارة عن مقالات ودراسات أصدرها باكستانيون لتنوير الرأي العام حول ما يجري ولاستكشاف آفاق المستقبل وإمكانية الخروج من عنق الزجاجة. بيد أن الكتاب، ورغم تبنيه نبرة متفائلة في مجمله حول المسار العام للبلاد ومآلات المستقبل، إلا أنه لا ينخرط في احتفالية الإشادة والمديح وتعداد المناقب والإنجازات، كما هو ديدن كتاب دول العالم النامي، بل فيه إقرار بجسامة التحديات التي تواجهها باكستان وخطورة الوضع الحالي الذي يستدعي تضافر جهود الجميع، بمن فيهم الكتاب والباحثين من خلال طرح الأفكار وإثراء النقاش العام. لذا يركز الكتاب على خاصية أساسية تميزت بها باكستان منذ نشأتها، وهي حصانتها كأمة ضد الفشل والسقوط. والكتاب يضم بين دفتيه خيرة الباحثين الباكستانيين الموزعين على شتى الاختصاصات؛ مثل الإعلام والدبلوماسية والأكاديميا، وغيرها لتقديم عصارة فكرهم حول الوضع الباكستاني. هذه الآراء والنقاشات لا تتفق بالضرورة في تشخيص الحالة الباكستانية، بل تتعدد وتختلف توجهاتها وإن كانت تجمع على أهمية النقاش كآلية لرسم معالم المستقبل. ومن المشاركات في الكتاب "عائشة جلال" التي تصدرت دراستها الفصل الأول، فهي لا تخفي تشاؤمها إزاء الحالة الباكستانية، مشيرة إلى الخوف المرضي المسيطر على الذهنية الباكستانية التي تفسرها بماضي البلاد المضطرب، إذ رغم مشاعر الوطنية الباكستانية التي يسعى الخطاب الرسمي إلى التأسيس لها، لم تستطع باكستان، ورغم مرور كل هذه السنوات على قيامها، تحديد هويتها، ليظل التوتر قائماً وليبقى البحث متأرجحاً بين الأسطورة والتاريخ. لذا تدعو الكاتبة إلى إعادة استحضار التاريخ، ليس للتذكير بالإنجازات أو المظالم والمعاناة التي صاحبت نشوء الدولة، بل لتأسيس وعي تاريخي حقيقي لا يمكن بدونه الحديث عن وعي جماعي بالهوية والوطنية. وتضيف "عائشة جلال" أنه في ظل الدولة الأمنية لا تستطيع باكستان تغيير المسار دون تحييد المخاوف الأمنية التي يعتاش عليها الجيش ويبرر بها استمرار السياسات الحالية. وفي هذا السياق تنتقد الكاتبة الصحافة الباكستانية التي تفاخر بحريتها، في حين أنها تساهم في تكريس النظرة الأمنية لمؤسسة الجيش. فبدلاً من أن تكون "طالبان" هي الخطر تصبح الهند العدو الأوحد. غير أنه خلافاً لعائشة جلال التي حذرت مواطنيها من الإذعان للمخاوف التاريخية والتقوقع خلف شرنقة الماضي المبُالغ فيه، ينتقد "محسن حميد"، في دراسة بعنوان "لماذا ستعيش باكستان؟"، المواقف السلبية التي لا ترى في البلاد عدا المخاطر، فهو يحتفي بالتعددية الحزبية، ومعها التعددية الثقافية والعرقية، محملاً مسؤولية الجزء الأكبر من المشاكل التي ترزح تحتها البلاد إلى العامل الاقتصادي والطريقة غير الرشيدة التي تدار بها مقدرات باكستان. والمشكلة في هذه القراءة المتفائلة أنها لا تعكس الواقع الباكستاني الذي يمزقه التعصب والعنف، إذ لم يمض وقت طويل على مقتل "سلمان تاسير" الذي طالب بوقف العمل بقانون التشهير ليتعرض للاغتيال في ظل موقف مستكين وغير مبرر للحكومة والإعلام اللذين آثرا السلامة مُهادنَةً للقوى المتشددة في البلاد! ثم ينتقل الكتاب إلى دراسة الصحفي الباكستاني الشهير "أحمد رشيد" الذي يعرج على المعضلة الأفغانية والدور الذي تلعبه باكستان، وبالأخص المؤسسة العسكرية ذات اليد الطولى في تقرير سياسة البلاد تجاه جارتها المضطربة، معتبراً أن التحدي الأكبر أمام الجيش الباكستاني هو مدى نجاحه في إنهاء الحرب، أو إدامتها. وأخيراً نصل إلى دراسة محررة الكتاب، "مليحة لظحي"، التي تُعمل مبضع التحليل وتغوص في عمق الأزمة الباكستانية باعتبارها نتيجة لغلبة المؤسسات التقليدية غير المنتخبة على حساب الحكومة والمؤسسات المنتخبة، لاسيما نظام الطبقات المغلقة المرتبطة بالأرض والتي تمارس نظاماً أشبه ما يكون بالفيدرالية والإقطاع. لكن الكاتبة لا توصد باب الأمل، بل تعلقه على الطبقة الوسطى في باكستان والتي تصل حسب بعض التقديرات إلى ثلاثين مليون نسمة، لما يعرف عنها من قدرة على التنظيم والمطالبة بالحقوق وتشكيل تنظيمات المجتمع المدني... مدللة على ذلك بمظاهرات المحامين وسلك القضاء ضد برويز مشرف، ورفضهم تدخل السلطة التنفيذية، حتى لو أمسك بها العسكر، في القضاء. فقد لعبت احتجاجات المحامين دوراً بارزاً في إنهاء عهد مشرف، هذه التحركات المدنية تعتبرها "مليحة" أهم ملامح المستقبل الباعث على الأمل والقادر على إعادة الثقة في إمكانية الاستمرار والخروج من أزمات البلاد المستفحلة. زهير الكساب الكتاب: باكستان... ما بعد حالة الأزمة المحررة: د. مليحة لودهي الناشر: هروست تاريخ النشر: 2011