عندما كنت على متن طائرة مروحية فوق مدينة قندهار الأفغانية مررت بمجمع سكني محاط بأسوار عالية يضم بيتاً أفغانياً تقليدياً مكون من طابقين وتتوسطه ساحة واسعة تبرز منها قبة بيضاء لأحد المساجد. ولدى سؤالي عن المبنى قيل لي إنه كان في السابق منزلاً لزعيم "طالبان" الملا عمر، والذي من خلاله حكم البلاد طيلة الفترة التي بسطت فيها الحركة سيطرتها على أفغانستان قبل التدخل الأميركي، واليوم تحول إلى معسكر "جيكو" المزدحم ببنايات أضيفت له مؤخراً، كما أصبح معسكراً للقوات الخاصة الأميركية، بل وكما يهمس بذلك سكان قندهار، تحول إلى معقل لوكالة الاستخبارات المركزية "سي. أي. إيه". ولا شك أن العديد من الأمور تغيرت في المدينة فقبل عام فقط كانت قندهار والمناطق المجاورة خاضعة لسيطرة "طالبان"، لكنهم اليوم خرجوا من المدينة بعد خطة الزيادة في عدد القوات التي أقرتها الإدارة الأميركية ودخول قوات إضافية على مدى الثمانية أشهر الأخيرة، ومع ذلك لا يمكن الاطمئنان تماماً إلى الوضع في قندهار التي مازالت نقطة ساخنة تحاول "طالبان" جاهدة العودة إليها لما تدركه من قيمتها الرمزية، بحيث شنت في الأسبوع الماضي سلسلة من الهجمات المنسقة استهدفت بنايات تابعة لبلدية المدينة. وفي توضيحه لهذا الصراع الشرس على المدينة، أخبرني ضابط أميركي بارز بأن قندهار تمثل منطقة حرب في معركة تدور رحاها بالوكالة بين الإسلام الراديكالي والغرب"، لذا وبعد النقاش الذي تلا مقتل أسامة بن لادن في أميركا واستعداد البيت الأبيض لسحب قواتنا من أفغانستان تمهيداً لتسليم المسؤولية الأمنية للأفغان، قررت أن استطلع الأمر، وأقف على حجم التقدم الذي أحرز في المدينة. وتتيح فرصة التحليق فوق المدينة إمكانية التعرف على شوارعها المغبرة وعلى أطرافها المترامية بتعداد سكاني يصل إلى 800 ألف نسمة، فضلا عن أسواقها التي تضج بالمواطنين، وعلى أطراف المدينة تظهر نتوءات صخرية مفتوحة على منبسط صحراوي شاسع، وعلى مشارف المدينة يلوح حزام من قنوات الري معروفة باسم "أرجنداب" كان قد شيدها مهندسون أميركيون في الخمسينات والستينات والتي ساهت في تحول الصحاري إلى أراضٍ قابلة للزراعة. وقد اعتمدت الاستراتيجية الأميركية على إقامة مواقع في ضواحي المدينة تشرف عليها وحدات من القوات الأميركية الخاصة المكلفة بالمساعدة في تشكيل شرطة أفغانية محلية تعمل بالتنسيق مع الشرطة الوطنية. ورغم الدور البسيط الذي تقوم به الشرطة المحلية في دحر "طالبان"، فإن مهمتها بالغة الأهمية لو تمت مراقبة تلك الوحدات حتى لا تتحول إلى ميلشيات خارجة عن السيطرة، كما أن الشرطة المحلية توفر وظائف لسكان المنطقة، وتساعد الشرطة الوطنية في القيام بمهامها. ومن الحالات الميدانية قرية "تابين" بمنازلها الطينية وسكانها الذين لا يتجاوزون 500 نسمة، حيث كانت القرية واقعة تحت أيدي "طالبان" حتى وقت قريب عندما اضطرت للمغادرة بعد وصول القوات الأميركية، فقد طُلب من السكان تأسيس مجلس شورى الذي بدوره اختار "محمد إيساك" إماماً للمسجد وقائداً للقرية على أساس أن يساعد سكانها قوات الشرطة المحلية في تعقب "طالبان" مقابل استفادة القرية من مشاريع التنمية الأميركية، ورغم المخاطر المحدقة بحياة "إيساك"، لا سيما مع قرب انطلاق موعد المعارك في الربيع، إلا أنه يؤكد بأنه ثمن مستعد لدفعه. أما المثال الآخر على التقدم المحرز في قندهار فجاء من مقاطعة "خاكريز" شمال المحافظة حيث تتموقع أيضاً وحدة من القوات الخاصة الأميركية، فالمقاطعة مؤهلة رغم فقرها لتلعب دوراً مهماً بالنظر إلى إمكاناتها المستمدة أساساً من استضافتها لثالث أهم مزار ديني في أفغانستان، ومن التحديات الكبرى التي واجهت المخططين الأميركيين في المحافظة كان اختيار محافظ للمنطقة بالإضافة إلى قائد للشرطة، وهي العملية تقوم بها الحكومة المركزية في كابل مع ما يرافق ذلك من تجاوزات أحياناً تؤدي إلى هروب الناس إلى "طالبان" واحتمائهم بها، لكن في هذه الحالة وحرصاً على التوازنات القبلية في المنطقة ضغطت الولايات المتحدة كي تكون التعيينات في المستوى المطلوب، وهكذا تم الاتفاق على "قيدوم خان" كمحافظ للمنطقة، وهو مصمم على إكمال مهمته رغم المخاطر التي كان من نتائجها مقتل أخيه. ويقول المحافظ الجديد "السبب الوحيد الذي يفسر تحسن الأمور هو وجود القوات الأميركية والحس الوطني الأفغاني، فضلا عن تواجد كثيف للشرطة والتنسيق المهم بينهم، فقبل هذا الوقت لم نكن نلمس التنسيق بين مختلف الأجهزة الأمنية"، وأضاف "قيدوم" أنه من المهم تعيين قائد لشرطة المنطقة ينتمي إلى المقاطعة. "قيدوم" حرص خلال حديثه معي على إيصال رسالتين قال إنهما أساسيتان: أولهما أن "أفغانستان لن تنعم بالأمن والسلام إلا إذا أرغمت أميركا باكستان على التوقف عن إيواء "طالبان" الذين يستفيدون من ملاذ آمن من على مسافة قريبة من قندهار، والثانية أنه عندما ستغادر القوات الأميركية أفغانستان ستسعى بعض الأطراف إلى الدفع بحركة "طالبان" للعودة مجدداً إلى البلاد، وهو ما سينتج عنه العديد من القتل والدمار". ترودي روبين كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"