يمكن القول بيقين إن تحولات 25 يناير كانت لها إرهاصات في الفكر العالمي منذ بداية التسعينيات، وقد أبرزنا ملامحها في كتابنا الذي صدر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية عام 1995 وعنوانه "الوعي التاريخي والثورة الكونية: حوار الحضارات في عالم متغير". والثورة الكونية مصطلح ابتدعناه نتيجة قراءات واسعة في تحولات العالم السياسية والاقتصادية والمعرفية والقيمية، ليشير إلى ثلاثية متلازمة بمفرداتها وهي الثورة السياسية، والثورة القيمية، والثورة المعرفية. الثورة السياسية كانت شعاراتها الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. والثورة القيمية تشير إلى انقلاب في سلم القيم العالمي بالانتقال - كما سنشرح فيما بعد- من القيم المادية إلى القيم ما بعد المادية. والثورة المعرفية أخيراً وتعني الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. وليس هناك من شك في أنه يمكن تلخيص الثورة السياسية التي تجتاح العالم في مجال النظم السياسية في عبارة واحدة مبناها أنها انتقال حاسم من الشمولية والسلطوية إلى الديمقراطية. والديمقراطية الحديثة التي تبلورت في القرن الثامن عشر، وطبقت جزئيّاً وفي عدد صغير من الأقطار، ظهر وكأنه قد تم اغتيالها في القرن العشرين، فقد ظهرت النازية والفاشية، وهما مذهبان سياسيان وممارستان في الوقت نفسه قضتا على القيم والممارسات الديمقراطية، كما أن الشيوعية التي قامت على أسسها نظم شمولية، أدت هي أيضاً إلى الإضعاف الشديد للتيار الديمقراطي في العالم. ولكن فجأة، وحوالى منتصف الثمانينيات، حدث تحول ملحوظ لصالح الديمقراطية، في مجال الأفكار وفي مجال الوقائع على السواء، في سياق الحساسيات الشعبية، وكذلك في نظر المفكرين والقادة السياسيين. ومن هنا تثار تساؤلات متعددة: كيف ولماذا حدث التغير؟ وهل مقدر له الدوام، وهل سيتاح له أن يعمق تيار الديمقراطية في العالم؟ وهل هو يستند إلى مفاهيم واضحة، وهل ستطبق بجدية ونزاهة، أم أن الديمقراطية ترتكز على أفكار غامضة، غير متماسكة وزائفة، ليس من شأنها أن تكون سوى خدعة جديدة من شأنها أن توقع الإنسانية في حبائل عبودية من نوع جديد؟ هذه التساؤلات المتعددة يثيرها المفكرون الغربيون، وهم يرصدون اتساع نطاق الديمقراطية في العالم، ليس فقط في بلاد أوروبا الشرقية، التي كانت ترزح تحت وطأة النظم الشمولية، وتحررت منها تماماً، ولكن أيضاً في بلاد العالم الثالث، التي شرعت في الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية بخطوات متدرجة. ومن بين القضايا المهمة التي تثار في هذا الصدد: هل يمكن تصدير الديمقراطية؟ إن بعض الباحثين الغربيين المحافظين ممن ما زالوا يعتقدون -تحت تأثير أفكار المركزية الأوروبية- أن الديمقراطية الغربية نظرية متكاملة، ويمكن تصديرها إلى مختلف الشعوب، يقعون في خطأ جسيم، ذلك أنه ليست هناك نظرية وحيدة للديمقراطية تتسم بالتناسق الداخلي، ويمكن بالتالي نقلها وتطبيقها كما هي في أي سياق اجتماعي، وفي أي مرحلة تاريخية. ذلك أن الديمقراطية -كما نشأت تاريخيّاً في المجتمعات الغربية- تأثرت في نشأتها وممارستها تأثراً شديداً بالتاريخ الاجتماعي الفريد لكل قطر ظهرت فيه. فالديمقراطية الإنجليزية -على سبيل المثال- تختلف اختلافات جوهرية عن الديمقراطية الفرنسية، وهذه تختلف اختلافات جسيمة عن الديمقراطية الأميركية. ولذلك إذا اتفقنا على أن هناك مثالاً ديمقراطيّاً ينهض على مجموعة من القيم، أهمها سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وحرية الفكر وحرية التعبير وحرية التفكير، وحرية تكوين الأحزاب السياسية في إطار التعددية، والانتخابات الدورية كأساس للمشاركة الجماهيرية في اختيار ممثلي الشعب، وتداول السلطة، فإن هذا المثال بما يتضمنه من قيم، سيختلف تطبيقه من قطر إلى آخر، وضعاً في الاعتبار التاريخ الاجتماعي، والثقافة السياسية، ونوعية الطبقات الاجتماعية، واتجاهات النخبة السياسية. ومن ثم نحتاج - في العالم الثالث بشكل عام، وفي الوطن العربي بشكل خاص- ونحن ما زلنا نمرُّ الآن في مرحلة الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية، إلى أن نفكر في النموذج الديمقراطي الذي علينا أن نتبناه، والذي يتفق مع الأوضاع الثقافية والاقتصادية والسياسية السائدة في الوطن العربي. وليس معنى ذلك الخضوع للواقع العربي بكل ما يتضمنه من تخلف، أو الاستنامة إلى حالة الركود السائدة، التي هي من خلق بعض النظم السلطوية، التي جمدت المجتمع المدني العربي بمؤسساته المختلفة، ولكن ما نركز عليه هو ضرورة التفكير الإبداعي لصياغة نموذج ديمقراطي يستجيب إلى أقصى حد ممكن، لمتطلبات المشاركة الجماهيرية الواسعة في اتخاذ القرار على كافة المستويات، بالإضافة إلى الرقابة المؤسسية على تنفيذها. ونجد في هذا الصدد اتجاهين رئيسيين: اتجاه الأنظمة السياسية العربية، واتجاه المثقفين العرب الممثلين للتيارات السياسية المختلفة. أما اتجاه الأنظمة العربية -على وجه الإجمال- فهو الانتقال من السلطوية إلى التعددية المقيدة، وبخطى وئيدة ومتدرجة. وتساق في هذا السياق حجج شتى، سواء ما تعلق منها بضرورة الحفاظ على الأمن القومي، كما تعرفه هذه الأنظمة، أو بأهمية الحفاظ على السلام الاجتماعي، والاستقرار السياسي. وقد فشل هذا الاتجاه فشلاً ذريعاً في تونس ومصر حيث وقع تحولان وفي ليبيا واليمن وسوريا. ومن ناحية أخرى، فإن اتجاه المثقفين العرب -على وجه الإجمال أيضاً- يميل إلى توسيع الدائرة، والوصول إلى تعددية مطلقة لا تحدها أية حدود، حيث يسمح بإنشاء الأحزاب السياسية بلا قيود، وتمارس الصحافة حريتها بغير رقابة، وتنشأ مؤسسات المجتمع المدني بغير تعقيدات بيروقراطية. غير أن المشكلة الحقيقية لا تكمن في الوقت الراهن في الصراع بين بعض الأنظمة السياسية وتيارات المعارضة، مع أهمية هذا الصراع، ولكنها تتمثل في الصراع العنيف داخل جنبات المجتمع المدني ذاته، بين رؤيتين متناقضتين: رؤية إسلامية احتجاجية متطرفة، تريد إلغاء الدولة العربية العلمانية، وتهدف إلى محو التشريعات الوضعية، وتسعى إلى إقامة دولة دينية لا تؤمن بالتعددية. أما الرؤية المضادة فهي الرؤية العلمانية الليبرالية بكل تفريعاتها، التي تؤمن بفصل الدين عن الدولة وتعتقد أن التشريعات الوضعية ينبغي أن تكون هي أساس البنيان الدستوري والقانوني، مع الحرص على ألا تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، كل ذلك في إطار التعددية السياسية، التي لا ينبغي أن تفرض عليها قيود. ويرى بعض المفكرين أنه في مجال الديمقراطية، ينبغي التفرقة بين إجراءات الديمقراطية وقيم الديمقراطية. فالانتخابات العامة مهما كانت شفافيتها ونزاهتها تدخل في باب إجراءات الديمقراطية، والأهم من ذلك إيمان الأطراف السياسية جميعاً بقيم الديمقراطية. فإذا جاء تيار سياسي من خلال إجراءات ديمقراطية، لا يؤمن بالتعددية، ويقرر أنه إذا استلم الحكم، فإنه سيلغي التعددية، بما يعني إنشاء نظام سياسي شمولي ديني، يحل محل نظام سلطوي علماني، فإن إتاحة الفرصة له لكي ينفذ مخططه تعد في ذاتها مخالفة واضحة للقيم الديمقراطية. غير أن هذا الرأي لو أخذناه على علاته، يمكن أن يوصلنا إلى نتائج خطيرة، مفادها أنه بغير ترسيخ القيم الديمقراطية فإن الإجراءات الديمقراطية، والتي تتمثل أساساً في الانتخابات العامة، تصبح عبثاً لا معنى له، وأخطر من هذا، أنها يمكن أن ترد المجتمع إلى الوراء في مجال الممارسة الديمقراطية. كيف الخروج إذن من هذه المشكلة؟ في تصورنا أنه في مرحلة الانتقال من النظام السلطوي السابق إلى النظام الديمقراطي، لابد من إجراء حوار وطني واسع ومسؤول، بين كافة الفصائل والتيارات السياسية، للوصول إلى ميثاق يحدد قواعد العملية الديمقراطية، وينص على تراضي كافة الأطراف بالاحتكام، ليس فقط لإجراءات الديمقراطية، وإنما لقيمها أيضاً. غير أن هذا الميثاق لكي يطبق بصورة واقعية، ينبغي أن يتضمن من الآليات، ما يسمح بعدم الخروج على الشرعية الدستورية، إذا ما أتيح لتيار سياسي معين أن يحصل على أغلبية في الانتخابات. ويمكن التفكير في هذا الصدد، في إنشاء مجموعة من الأجهزة الدستورية التي تراقب العملية الديمقراطية، وتمنع الخروج على قواعدها، بل إن الجيش نفسه، الذي هو -بحسب التعريف- يحمي الشرعية الدستورية، يمكن أن يكون له دور في هذا الصدد ينص عليه الدستور ويحدد نطاقه بكل دقة، حتى لا يتحول إلى مؤسسة عسكرية تتدخل في الحياة السياسية. وبعبارة مختصرة نحتاج في الوطن العربي إلى إبداع فكري لصياغة نموذج ديمقراطي صالح للتطبيق، لا يكون نقلاً آليّاً لقواعد الديمقراطية الغربية من ناحية، ولا يخضع من ناحية أخرى للمواضعات الاجتماعية والثقافية والاجتماعية الناجمة عن التخلف السائد. نموذج ديمقراطي يتجه إلى المستقبل، ويعمل على تطوير الأوضاع القائمة، حتى نضمن أوسع مشاركة جماهيرية في عملية اتخاذ القرار.