أكاد أجزم بأن المجتمع العربي، من طنجة إلى مسقط، قد غيّر ذوقه، وأسلوب تلقيه للمواد الإعلامية، كما ارتفع ضغطه وزاد سهرهُ مع انطلاقة التحولات العربية الأخيرة. ويلاحظ على المجالس والبيوت على السواء أنها هجرت محطات الأغاني والمسلسلات العربية وتلك المدبلجة، كي تتركز مشاهدتها على الفضائيات الإخبارية في الأغلب. كما أجزم بأن العديد من الشباب العربي -الذي كان يهتم بطريقة تسريح شعره وانتقاء قمصانه الملونة، بل والشابات اللاتي كن يهتمّنّ بالموضة والأغاني الشبابية- قد تحولوا إلى الحديث السياسي، بل وأصبح الشباب يناقش ويطرح رؤى ما كان يستلذ الحديث فيها قبل قيام التحولات العربية! وهذا ينم عن حضور وعي جديد في المجتمع العربي. وقد تزامن ذلك التحول مع اضطراب نفسي، حيال صدق التوقعات من كذبها! فحاكم عربي يرحل بسرعة بعد أن "فهم شعبه" مؤخراً! وحاكم آخر استخدم كل وسائل المناورة من أجل البقاء في الكرسي، وقدم التنازلات العديدة، ولكن الشعب كان مصرّاً على "إسقاط النظام"، وتنحى الرجل. وحاكم آخر ما زال "معصلجاً" لا يريد أن يتزحزح حتى لو لم يبق آخر مواطن من أبناء شعبه، الذين يقذفهم يوميّاً بالصواريخ والقنابل المحرمة دوليّاً، ولكأنه يريد أن يهدم "المعبد" بمن فيه ودون رحمة. وحاكم آخر تطالبه الملايين بالرحيل وهو لا يسمع، بل ويبدو أنه لا يشاهد الأطفال وقد صبغوا أياديهم ووجوههم بعبارات "ارحل.. ارحل"! كما أنه يتردد في قبول المبادرات ثم يتهرب من توقيعها. ويتشدق بأنه يماري الديمقراطية! وهو يتناسى أن حكم الديمقراطية يقول: "إن الشعب يختار من يحكمه"! واليوم الشعب يقول له: ارحل.. ارحل، ولكنه ليس براحل؟ الاضطراب النفسي أيضاً يهيمن على الشعب العربي الذي أتعبه السؤال: "هل هذه التحولات منظمة؟". وخلفها أيادٍ أخرى؟! أو بمعنى آخر: لماذا جاءت وراء بضعها بعضاً؟ فالظلم موجود منذ ثلاثين عاماً، وهو نفس ظلم الأربعين عاماً! يقول البسطاء من أبناء الأمة: "إن هنالك مخططاً أجنبيّاً لهذه التحولات، وإلا لماذا لم تتحرَّ أميركا -ولا الغرب- لحفظ علاقتها الوطيدة مع تلك الأنظمة التي تهاوت؟! كما أنها حتى اليوم غير متفقة على بعض ما بقي من أنظمة! نعم، البسطاء يطرحون مسألة غاية في الأهمية، لأن الولايات المتحدة قد بشّرت بعهد ديمقراطي وشرق أوسط جديد منذ أكثر من عشرة أعوام، ولم يتحقق ذلك! بل زادت بعض الأنظمة العربية سوءاً وقهراً لشعوبها. فلماذا تثور 6 عواصم عربية في آن واحد؟! ثم أين ذهبت تلك العلاقة الاستراتيجية وعمل الاستخبارات، وتدريب بعض الجيوش؟! وأين المستشارون الأجانب الذين يعملون في الليل، وأين السي آي أيه (C.I.A.) وغيرها من أجهزة الاستخبارات الذكية؟ لماذا تهاونت في تغيير تلك الأنظمة؟ في الوقت الذي يمكن أن تهدد فيه الأنظمة القادمة بناء العلاقات الوطيدة بينها وبين تلك الدول؟ هنالك دولٌ تمنع الانقلابات السياسية أو تغيير الأنظمة! بل وتغيير سيادة الحزب الواحد على مقاليد الأمور، وعملت على إدخال ثقافة "التوريث" في الأنظمة الجمهورية، لأن الشعب العربي مغلوب على أمره ومسكون بالخوف والقهر. فكيف سقط نظام بن علي وبعده نظام مبارك على رغم تاريخهما البوليسي والاستخباري وقوة الجيش والحرس الجمهوري والخاص؟! وليس هذا كل ما في الأمر، بل تبقى في جعبة البسطاء من أبناء الأمة مجموعة من الأسئلة: إلى متى سوف يستمر مسلسل التغيير؟ وهل تلك الاحتقانات والتحولات جاءت عندما جاعت الشعوب؟! وهل فعلاً الجوع يصنع كل هذا الاحتقان؟ وهذا يطرح معادلة مماثلة، وهي: إن الشعوب الغنية لن تحتاج إلى إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية! وذلك مفهوم خاطئ! إن استشعار المواطن بالأمن والعدالة والحرية ونزاهة القضاء والشفافية في التعامل، يجعله متحالفاً مع النظام! وتلك من أساسيات بقاء الأنظمة دون اهتزازات. ومن حسن الطالع أن بعض الأنظمة العربية قد بدأت تغيّر قوانينها ومؤسساتها بحيث تضمن للمواطن تلك الأساسيات، التي حتماً ستصرّ عليها المؤسسات الدولية، طبقاً للمواثيق والمعاهدات التي صادقت عليها الدول المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة. ليست كل مظاهرة إصلاحية تريد قلب، نظام الحكم! وليست كل مطالبة بعدالة أكثر وتنمية أمتن، ونزاهة أوسع، وشفافية في التعامل مع الجميع دون تفرقة، وشراكة في صنع المستقبل، هي مطالبة برحيل النظام! ونحن ندرك أن الأنظمة التحولية تحتاج لوقت كي تلحق بالركب المتطور، خصوصاً تلك التي تعاني من أمراض مجتمعية مزمنة مثل: الأمية والعشائرية والطائفية. وتلك التي لم تتمأسس علاقتها مع الشعوب على أسس سليمة. هنالك ثلاثة تحولات عربية في طريقها إلى النور، وإن طال مخاض كل منها. لم تكن تلك طائفية أو فئوية، بل جاءت لإنهاء عصور الظلم والاستبداد وتغييب صوت المواطن. إننا نعتقد أن التحولات التي تأتي بالحليب للأطفال، وبالخبز والدواء والتعليم الجيد للشعب، وتحارب بعض زبانية النظام الآكلين لحقوق الشعب، وتلك التي تحفظ أمن المواطن وتحقق له العدالة في نظام دستوري واضح المعالم، هي التي يجب أن نصفق لها وندعمها. وبطبيعة الحال، هنالك أنظمة لا تحتاج إلى تحولات قدر حاجتها إلى بعض التعديلات في قوانينها، ورقابة حديثة لخطط التنمية، بحيث تتحقق للمواطن العدالة -حسبما تذكره الدساتير في كل الأنظمة العربية- ويكون هدف كل أبناء المجتمع -بمن فيهم الطبقة السياسية الحاكمة- واحداً، هو بناء البلد والحفاظ على أمنه واستقراره، ودخوله مرحلة العدالة التي لا تفرق بين مواطن وآخر، وأن الجميع سواسية أمام القانون. ومتى تحقق ذلك، فلا نعتقد أن مجتمعاً كهذا يحتاج إلى أية تحولات!