"ها نحن نشُدُّ الذئب من أذنيه، ولا نستطيع الإمساك به أو إطلاقه بأمان؛ فالعدل في كفة الميزان، والحفاظ على الذات في الكفة الأخرى"، قال ذلك قبل نحو قرنين توماس جيفرسن، ثالث رئيس للولايات المتحدة. واليوم، حتى إذا كان العربُ هُمُ الذئب، وليس العكس، فمأزق واشنطن في علاقاتها بالبلدان العربية مأزقها مع نفسها. أحمد زويل، المبعوث العلمي للرئيس الأميركي، يبحث عن مخرج من المأزق في ثورة علمية يترقب حدوثها في المنطقة العربية. "ثورة علمية"، عنوان مقاله في المجلة العلمية "نيوساينتست"، وفيه يتحدث عن "ربيع عربي قد يجعل الشرق الأوسط قوة موّلدة للعلوم". إلاّ أن المنطقة تحتاج في تقديره إلى عون الغرب لتحقيق ذلك. كان زويل يقول لي خلال سنوات الانتظار الطويل لمنحه جائزة "نوبل" إنه شخص متفائل جداً، و"عندما تبدو الأمور ميئوساً منها يزداد حماسي لها". وحماسه اليوم كبير لـ"المشروع القومي لتنمية العلوم والتكنولوجيا" الذي حاول سنوات طويلة أن يقنع به النظام المصري السابق، "لكن مبارك بذل كل جهد لعرقلته". ويتحدّى زويل بمشروعه "النظرة التبسيطية" الشائعة عن "تأخر العرب في العلوم بسبب الازدواجية الموهومة للعقيدة والعقل"، ويشير إلى"الحضارة المتقدمة التي أنشأها المسلمون في إسبانيا وشمال إفريقيا عندما كانت أوروبا المسيحية تعيش العصور المظلمة"، ويعيد التذكير بـما فعله "استعمار الإمبراطوريات الغربية الكولونيالية التي خلّفت نصف سكان المنطقة أميين، وبلغت نسبة الأمية 80 في المئة بين النساء". و"عندما انتهى الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية تطلع سكان المنطقة للعون من الغرب ثم من الشرق، وبعد انتهاء الحرب الباردة لم يبق سوى مكان واحد، وهو التطلع إلى الأعلى". وفي عصر لم يظلم أمة كما ظلم العرب والمسلمين يقف زويل إلى جانبهم في طلب العون من السماء والأرض، مؤكداً أن أول وأهم ما يمكن أن يقدمه الغرب الآن هو "الدخول في شراكة مع شعوب المنطقة لتحسين قدراتها البحثية، ويمكن أيضاً تقديم المعونة، إنما في ظروف محددة، وأن لا تُقسّم المعونة على مشاريع عدة تبعثر الموارد، ولا يمكن متابعتها، بل يخصص قسم كبير منها لبرامج ممتازة مختارة لبناء كل من الهياكل الارتكازية والموارد البشرية". ويوصي زويل بأن "لا تكون المعونة مُسيّسة"، ويحذر من "الوقوع مرة أخرى في الخطأ الفادح لدعم أنظمة شمولية غير ديمقراطية"، "فالأفضل على المدى البعيد الوقوف إلى جانب الناس، وليس إلى جانب الدكتاتوريين". وأسباب حماس زويل سابقة لتغييري مصر وتونس، الظاهرة الجديدة التي يقول إنها "بعثت الأمل في أن التغييرات المطلوبة ممكنة". فمقاله في الأصل مقدمة تقرير أعده مركز "طومسن رويترز" عنوانه "استكشاف تغير منظر البحث العلمي في بلدان المشرق العربي وإيران وتركيا". اعتمد تقرير المركز المختص بتقويم أوضاع العلوم في مختلف الأقاليم على أبحاث مؤسسات مختصة، بينها بحث "عصر ذهبي جديد" أعدته "الجمعية الملكية" التي تعتبر أكاديمية العلوم البريطانية، وكشفت نتائجه عن معدلات عالية للاستثمارات العلمية في السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، والتي تُظهر، حسب التقرير "ديناميات مماثلة للبرازيل والصين". فالسعودية تستثمر 20 مليار دولار في "جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية" التي تعمل لاجتذاب هيئة تدريسية قوامها 250 أستاذاً، وألفي طالب دكتوراه من جميع البلدان. وأنشأت قطر "المدينة التعليمية" التي تضم فروع جامعات عالمية، وخصصت 8 مليارات دولار لإنشاء "مركز السدرة للطب والأبحاث" الذي يُفتتح العام المقبل، وركزت أبوظبي على مشروع "مصدر" الذي يقيم أول مدينة سكنية تستخدم الطاقة المستديمة لتأمين احتياجات السكان البالغ عددهم 50 ألفاً، إضافة إلى مكاتب ومختبرات 1500 شركة مختصة بتطوير تقنيات الطاقة النظيفة. وإذا كان تقييم هذه الاستثمارات مرهوناً بنتائجها المنتظرة خلال السنوات الخمس المقبلة، فإن تركيا وإيران وبلدان المشرق العربي ضاعفت مرتين خلال عشر سنوات الماضية نسبة مساهمتها في نمو البحث العلمي العالمي من 2 إلى 4 في المئة. وفاقت معدلات مثيلاتها في أميركا اللاتينية وآسيا، بينما انخفضت حصة، وليس حجم، البحث العلمي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتثير الدهشة تركيا التي ارتفع عدد أبحاثها العلمية من 5 آلاف عام 2000 إلى 22 ألف بحث عام 2009. وتنتج تركيا حالياً نصف ما تنتجه المنطقة من أبحاث، وللبحث الطبي فيها أكبر نصيب، وتتبعها إيران وتنتج ربع كمية الأبحاث في المنطقة، وتأتي بعدهما مصر، ويبلغ إنتاجها نحو ثُمن أبحاث المنطقة، ثم السعودية والأردن، وإنتاج كل منهما يعادل نصف إنتاج مصر. وتنتج البلدان الخمس المذكورة 90 في المئة من مجموع إنتاج المنطقة. وتستحق الدرس تجربة إيران التي ارتفع إنتاجها العلمي من 1300 بحث عام 2000 إلى 15 ألفاً عام 2009. ويلاحظ النمو الفائق منذ عام 2004 عندما تضاعفت حصتها من الإنتاج العلمي العالمي نحو سبع مرات من 0.2 إلى 1.3 في المئة. هذا الرقم القياسي العالمي هل تفسره نظرية مؤامرة التواطؤ السري بين طهران وواشنطن، أم نظرية الاستجابة للتحدي الذي يفرضه الحصار العلمي الدولي؟ الجواب على أي حال قد نجده في قول الشاعر وعالم الرياضيات عمر الخيّام: "يسمونني الخيّام لأنني أرتق خيام العِلم"! والمتغير المهم الغائب عن حساب أوضاع العلم في المنطقة هو تأثرها بمعدلات هجرة الكفاءات إلى الغرب. فقد بلغ عدد المهاجرين المصريين إلى الولايات المتحدة في عام 2000، حسب الإحصاء الأميركي الرسمي، نحو 114 ألفاً، نسبة خريجي الجامعات بينهم 62 في المئة، وعدد المهاجرين من المغرب نحو 35 ألفاً، نسبة خريجي الجامعات بينهم 65 في المئة، والسودان نحو 20 ألفاً، نسبة الجامعيين منهم 63 في المئة، وتونس نحو 10 آلاف، نسبة الخريجين منهم 64 في المئة. وفي تقييم تأثير هجرة الكفاءات على البلدان العربية والولايات المتحدة لا نعرف من يشدّ أذنَ منْ. فنزوح الأدمغة اختلط خلال العقدين الأخيرين بتدوير الأدمغة. ويصمت تقرير "طومسن رويترز" عما فعله الوجود المباشر للولايات المتحدة في العراق. والصمت فتّاك عندما يصمت المجتمع العلمي الدولي عن اغتيال وأسر وتشريد أساتذة وعلماء وأطباء ومهندسي العراق عقب الاحتلال الأميركي. لا ذكر لذلك في التقرير باستثناء إشارته إلى أن معدلات البحث العلمي في العراق تضاعفت مرتين خلال هذه الفترة. وروحي فداء للعراقيين كيف فعلوا ذلك خلال أكبر مجزرة للعلماء والباحثين في التاريخ، وما كانوا سيفعلون لو توفر لهم المال والأمان؟ الجواب الذي قد يرتق قلوبنا يوماً وجدته عند توماس جيفرسن نفسه، وهو ممن يسمون الآباء المؤسسون لأميركا: "بالتأكيد، أنا أرتعد فزعاً على بلدي عندما أتذكر أن الله عادل".