كيف يكون الإنسان متحرراً من علاقات القوة؟ يطرح عالم النفس البريطاني "هادفيلد"، في كتابه "التحليل النفسي للخلق"، ذلك السؤال الحرج، ثم يصيغه على نحو آخر: ماهو المنبه المناسب لتنشيط الإرادة؟ ويجيب "هادفيلد" بالقول إن كل حاسة لها مثيراتها، وهكذا فالفوتونات تحرض حاسة البصر، والذبذبات الصوتية تحرض حاسة السمع، والجزيئات الكيميائية تحرض حاسة الشم. أما المثير الذي يحرض الإرادة فهو المثل الأعلى. ويرى المؤرخ البريطاني آرنلود توينبي أن الإرادة الجماعية للشعوب تنهض وتتحفز عند بروز التحدي التاريخي في وجه جماعة اختارت العمل المشترك، وهذا ما تفعله التربية حين تقفز بالإرادة الإنسانية نحو مستوى جديد في الطاقة والعطاء؛ فيتحرر الفرد ويؤدي الأعمال في صورة مواطن واعٍ مشارك ومسؤول، حيث يفعل ما يراه صحيحاً ويمتنع عما يبدو له معصية بحق الأمة أو الجماعة الوطنية. وهكذا يظهر إلى سطح المجتمع إنسان جديد محرر الإرادة، ليس عصا بيد أحد للضرب والإيذاء، أو طبلاً جاهزاً للقرع بكل الأنغام والرقصات، أو مسدساً جاهز الزناد لإعدام الآخرين ولو كانوا آباءً أو إخواناً. القرآن قرن بين ثلاثة مظاهر للمسخ في اتجاه العبودية؛ فذكر "القردة والخنازير وعبدت الطاغوت"، ويظن البعض أن المسخ كان بيولوجياً، لكنه في الحقيقة ثقافي كما نرى. إن أول ما نزل من القرآن، سورة العلق، وقد أكدت هذه السورة على ثلاثة معانٍ مفصلية: الأول تأكيد الكرامة بالقراءة: "اقرأ وربك الأكرم"، وذلك أيضاً من خلال تغيير محتوى الوعي بالمعلومة المكتوبة: "الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم". والثاني معالجة أشد مشاكل المجتمع خبثاً واستعصاءً، ألا وهي الطغيان، والقول بأنه قابليّةٌ في جبلة كلٍ منا إذا مُنح السلطة بدون ضوابط. ونحن نعرف أن سلطة قليلة تعني فساداً قليلاً، وسلطة مطلقة تعني فساداً مطلقاً. أما المعنى الثالث والأخير فهو وصفة بسيطة للتخلص من الطغيان، وخلاصتها "عدم التعاون" ورفض الطاعة، لإن الحساب في الآخرة فردي، ويجب أن يفكر الإنسان باستقلال ويتصرف بإرادة حرة، وهو مسؤول عن أعماله ولو كانت مثقال ذرة من خردل. والاقتراب من الله في النهاية لا يتم بغير سجود فعلي، ولا سجود إلا برفض الطاعة: "كلا لا تطعه واسجد واقترب". في انتخابات شهدها أحد بلدان الجملوكيات الكثيرة هذه الأيام، أقر "البرلمان" فيها تمديد حكم الرئيس إلى عام 2020! لكن ماذا يحدث للناس في هذا البلد لو قرروا أن يجلسوا، وبكل بساطة في بيوتهم ورفضوا النزول إلى الشوارع أو الأعمال أو المحال أو الخدمات..؟ ما الذي سيحصل لهم؟ إن الكثير من الناس لا يقرؤون ما ذكره القرآن عما فعل فرعون بالجماهير: "واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم". إن العقل معتقل، وإن المثقف مقطوع اللسان، وإن مواطناً في هذه الجملوكيات تقدم له بطاقة ويتم فيها تخييره بين "نعم" و"لا"، كحق دستوري، ويشعر أنه مجبر على مخالفة ضميره، لمواطن مسحور! لقد أعيد إحياء السحر في القرن الحادي والعشرين، بعد موت هاروت وماروت بأربعة آلاف سنة!