مع انتهاء مدة خدمته المتميزة في الحكومة في أواخر يوليو المقبل، سوف يكون من حق روبرت جيتس أن يهدئ من إيقاع عمله ويتذوق طعم النجاح الذي حققه خلال تلك المدة، والذي يرجع لحد كبير إلى أنه قد ركز جهده على الحربين اللتين تخوضهما بلاده بدلاً من شراء الأسلحة الجديدة الباهظة الثمن من أجل خوض حروب "غير محتملة" في المستقبل. وبالإضافة لذلك، دعم جيتس الاستراتيجية السلمية والجنرالات في العراق، البلد الذي يعترف الرئيس المناوئ للحرب فيها (أوباما) بأنها تقدم "وعداً بديمقراطية متعددة الأعراق، متعددة الطوائف". وفي مواجهة معارضة شديدة داخل الإدارة، تغلبت رؤية جيتس على رؤية الرئيس فيما يتعلق بمنح استراتيجية مواجهة التمرد في أفغانستان دفعة جديدة بما يمكّنها من تحقيق النجاح هناك. لكن جيتس لم يشغل نفسه بجمع أكاليل الغار خلال الفترة القصيرة المتبقية، والتي لا تزيد عن أسابيع، وإنما قرر أن يستخدم تلك الفترة في توجيه تحذير مباشر لخليفته في المنصب، وللكونجرس، وللرئيس نفسه. ففي معرض استجابته للمقترحات الخاصة بإجراء تخفيضات دفاعية كبيرة، لكنها غير واضحة المعالم، وجّه جيتس سؤاله للأطراف المذكورة أعلاه قائلاً: "إذا كنتم تريدون تغيير حجم الميزانية على نحو جذري، فما هي المخاطر التي تعتبرون أنفسكم مستعدين لتحملها فيما يتعلق بالتهديدات المستقبلية للدولة؟". وعلى ما يبدو فإن الإدارة الحالية، والكثيرين في الكونجرس، ينظرون إلى الدفاع على أنه هدف سهل لتخفيضات الميزانية العامة، وهو الشيء الذي لا يقبله جيتس، وعلى أساس موقفه هذا يخوض معركته الأخيرة ضد هذا الأسلوب. فالقرارات المتعلقة بالإنفاق الدفاعي، من وجهة نظره، يجب أن تكون مبنية على الاستراتيجية وليس على الجوانب الحسابية البحتة المتعلقة بالميزانية. ويرى جيتس أن "ما يحدث الآن هو عكس ذلك تماماً... فالجميع ينهمكون في إجراء حساباتهم ولا أحد ينشغل بالاستراتيجية". والواقع أن أهم التخفيضات العسكرية قد أجريت بالفعل، حيث تخلص جيتس من برامج الأسلحة التي كانت قد وجهت إليها الانتقادات بسبب تكلفتها الباهظة، مثل مركبة الحملة البحرية المقاتلة، والجيل التالي من الطرادات البحرية، وطائرة الهليوكوبتر البحرية المخصصة لمهام البحث والإنقاذ، والصواريخ الدفاعية الليزرية المحمولة جواً. والشيء اللافت فيما يتعلق بالميزانية الدفاعية الأميركية أن أكثر بنود الإنفاق تكلفة ليست هي تلك المتعلقة بالمهام التي تنجزها في منطقة الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا على سبيل المثال، وإنما تلك التي تتعلق ببرنامج الرعاية الصحية العسكري، وبتكلفة نظامي التعويضات والتقاعد للعسكريين. فتكلفة الرعاية الصحية في القوات المسلحة على سبيل المثال ارتفعت من 19 مليار دولار عام 2001 إلى 50 مليار دولار في العام الحالي. أما تكلفتي نظامي التعويضات والتقاعد للعسكريين فهي لا تقل عن ذلك، خصوصاً أن نظام التقاعد العسكري يسمح لجندي في السابعة والثلاثين من عمره بالتقاعد، والحصول على مزايا تقاعدية سخية. ويعلق جيتس على تلك الحقيقة بقوله "ليست هناك أبقار مقدسة"، ويقصد أنه لا وجود لموضوعات تَحرُمُ مناقشتها. ويضيف: "الكل يعرف أننا نؤكل أحياء من قبل الرعاية الصحية". ويقول الخبراء إنه مع احتمال تقليص الميزانية الدفاعية وتخصيص جزء كبير منها للرعاية الصحية والتقاعد والمعاشات، فإن ذلك لابد أن ينعكس بالسلب على الإنفاق على الأبحاث العسكرية، والمنظومات القتالية، والعمليات التدريبية والصيانة. وهذا كله هو ما يسبب قلق جيتس ويدعوه لتوجيه التحذيرات بأنه سوف يكون من المستحيل أن نطلب من العسكريين تأدية مهام معينة قد تتطلبها جهود مواجهة الخطر التي قد تضطر إليها الولايات المتحدة في المستقبل في إطار مواجهتها للتهديدات، دون أن تكون لديهم الكميات الكافية من المعدات الحديثة، ودون أن يكونوا قد تلقوا القدر الكافي من التدريب على تلك الأسلحة والمعدات... بما يمكنهم من تنفيذ المهام المطلوبة منهم بأقصى قدر من الكفاءة. ويقول جيتس أيضاً: "الشيء الذي أعمل ضده هنا حقاً هو على وجه التحديد ما قمنا به في عقد السبعينيات والتسعينيات من القرن الماضي عندما طبقنا نظاماً لتخفيضات شاملة في الميزانية العسكرية مما أثر على أدائنا للمهام التي كانت منوطة بنا". ويرى جيتس أن القوات المسلحة الأميركية بحاجة إلى التعافي، سواء من تجارب الماضي المشار إليها، أو من المهام الشاقة التي تقوم بها في الوقت الراهن. وهي تحتاج، إلى جانب ذلك، إلى بعض الأنظمة والقدرات التسليحية المطورة، وإلى أنظمة جديدة لإعادة تعبئة الطائرات بالوقود ودفاعات صاروخية فعالة وكفؤة، وإلى جيل جديد من المقاتلات الشبحية والغواصات المزودة بالصواريخ البلاستية. فتحت هذه الظروف، لا يكفي بالنسبة للسياسيين، بما في ذلك الرئيس الأميركي نفسه، أن يعملوا على إجراء المزيد من التخفيضات في ميزانية الدفاع واقتطاع ذلك من بنود قد جرى تخفيض الإنفاق عليها بالفعل، بحيث لم يعد من الممكن إجراء المزيد من التخفيضات عليها. كما يجب عليهم ألا يكتفوا بالحديث عن مهام غير معروفة بدقة أو تهديدات غير محددة بشكل كاف، وإنما عليهم أن يحددوا ما هي القدرات وما هي الالتزامات التي يتعين على أميركا التخلي عنها مقابل إجراء تلك التخفيضات. و هذا "الدوش البارد" هو في الحقيقة آخر خدمة رسمية يقدمها جيتس في سياق سجل خدمته المتميز لبلده. مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"