كنت ضيفاً بالمملكة العربية السعودية، ضمن مهرجان الجنادرية التراثي والثقافي، ومعلوم أن الهيمنة الدِّينية هناك واضحة المعالم مع ليبرالية ظاهرة يخوض متقدموها الصراع الاجتماعي بصبر. ففي هذا الموسم أخذت المرأة تجلس على منصة المهرجان، وجهاً لوجه مع الرِّجال، وتدلو بدلوها ولا رقابة على المداخلات التي أُلقيت. في تلك الأجواء زارني ثلة مِن الشباب باحثين عن الفكر العقلي وما تبقى مِن رواسب المعتزلة، وما يمكن استنهاضه من جديد. بلد ننظر إليه من على بُعد على أنه كتلة من التَّعصب، وكلُّ الأمكنة تؤخذ بما يُشاع ويظهر منها، أما الدواخل فلا تُرى إلا برؤية العين، فليس هناك محل في هذه الدُّنيا لم يتأثر بما حوله. فالكتاب الممنوع يدخل عبر الإليكترون بلمح البصر، ولا تُحجب في ظل التقارب الأممي المعارف والثقافات على شعب من الشُّعوب، وفي ظل هذا التداخل لا وجود للعقائد النقية، والمؤثر منها يفرض وجوده، وكم سمعنا بالبكائيات من الحضارة الغربية على أنها المفترسة، من دون النَّظر بواقع الحال، وهل تتمكن المنطقة من الاستغناء عن الغرب في تدبير إبرة الخياطة مثلاً؟! من هذا المنطلق، وفي ما يصلح من أفكار الماضي لخلق صناعة يُستغنى بها وقت الشِّدة؛ طلب الشباب الحديث عن التراث العقلي، وكانوا من ولادات (1989-1990). لم يدركوا الحرب بأفغانستان (بداية 1980) التي يعود لها الإسهام في شدة السَّلفية وتحولها إلى الجهادية، ولا أدركوا أوان الثورة الإيرانية (1979)، والتي يعود لها بعث الروح في الإسلام السياسي بالمنطقة، ولم يشهدوا اقتحام جهيمان للحرم المكي (1979)، لكنهم وجدوا أنفسهم داخل الصراع، فمَن في أعمارهم فجروا أنفسهم ضمن تنظيم "القاعدة"، أو تحولوا إلى ضاغطين على النَّاس في ملبسهم وسلوكهم، وهم من قصار الثياب غاضبين متجهمين، وكأن ليس في الدِّين سوى التجهم. قدم أولئك الشباب أنفسهم أنهم جماعة ليسوا مِن المجانبين للدين والتَّدين، وعرفت أنهم يتحدرون مِن مذاهب البلاد المختلفة، وهذا ما سكب دمعتي فرحاً، اتفقوا على النَّظر العقلي. طلب الشَّباب اللقاء بهم. في بداية الأمر أحجمت عن القبول، فأنا ضيف والمثل يقول: "ياغريب ..."، ظاناً أن الحديث عن العقل بمنحى المعتزلة في ذلك المكان غير محبذ. لكن إلحاحهم وتألق نظراتهم وهم في شرخ الشَّباب جعلني أمتثل، وكانت في قاعة من قاعات الجامعة، لا في وكر سري. قدمني أحدهم وأظهر لباقة في الخطاب، وأخذ يُذكر بضرورة الانتصار للعقل، وأشاد بالمعتزلة، ثم فسح لي المجال، ولم يكن أمامي غير قرن الرقي الثَّقافي التاريخي بوجود تلك الفرقة، فالمثقفون والمفكرون الكبار كانوا مِن أهل الاعتزال، وحسبك من المعتزلة أن "تنظر إلى النَّاس بالعين التي ينظر بها ملائكة السَّماء إلى أهل الأرض مثلاً"(الحميري، الحور العين). واعتمادها المناظرة طريقاً للجدل، وكان من شروط التناظر أن المنقطع يمتثل لرأي القاطع. تحول المعتزلة، منذ وفاة واصل الغزال (ت 131 هـ)، وتولي عمرو الباب (ت 144 هـ) الرئاسة، كليةً إلى الفكر لا السياسة، تؤمن بالعقل مقابل النص، قادت مقالة نفي القدر شيوخ الاعتزال إلى القول بـ"خلق القرآن"، ورأيهم أنه كلام الله ليس قديماً، والسبب حسب شيخهم القاضي الأسد آبادي (ت 415 هـ) أنه نزل وفق مصالح العباد، وهم مرة اعتبروا المقالة ضمن العدل، وأخرى من التوحيد عندما ترتبط بالصفات. ذلك إذا علمنا أن أصولهم خمسة أبرزها: التوحيد والعدل. سألني أحد الشباب بحماسة العمر: هل تصلح إعادة العمل بمذهب المعتزلة، ونحن نرى سطوة التفكير خارج العقل؟! أجبته: ما مضى لا ينتهي بجميعه، فالظواهر حلقات مترابطة تنفي بعضها بعضاً ويُضاف الجديد إلى القديم فيظهر في مبنى آخر. مقالات المعتزلة لا معنى لطرحها اليوم إلا لدراسة تاريخية أو مقدمات لقضايا أُخر، والسبب أنها ليست مطروحة مثلما كانت في عهد المأمون (ت 218 هـ)، فعندما يُجادل فيها الآن تبدو غريبة!؟ ومن غير إغفال تعصب بعض شيوخ الاعتزال وتورطهم مع السلطة في المحنة المشهورة، ومن غير إغفال تهويلها والعنف ضدهم بالتكفير، فإن ما يمكن تمثله من المعتزلة هو سيادة العقل لمجابهة الظلام الدامس في العقول، واحترام ما وصلته الإنسانية مِن رُقي، فمثلما أُتهم المعتزلة بأنهم مقلدو اليونان يُتهم الاتصال الحضاري اليوم بالانبطاح للغرب. بدا الشاب مقتنعاً إلا أنه أردف قائلاً: أما ترى الظلام والتزمت المعرفي يحيطان بنا، ووفقه لا أعتقد ستكون لدينا حضارة وصناعة، إنما سنظل غارقين بما حولنا، وها نحن نعيش مستهلكين لا مبدعين! سأل شاب آخر سؤالاً فيه لهفة إلى عصر المعتزلة وإخوان الصفا (غير ساعين إلى مذهب فقهي ولا تعصب ديني) عندما قال: ألا تعتقد لو استمر لكانت الصناعة عندنا؟! قلت: أظن ولا أعتقد- الظن أخف من الاعتقاد- أن الكومبيوتر وكل المتفرعات من علم الإليكترون ظهرت بالبصرة قبل واشنطن أو طوكيو، وتجارب الإبحار إلى الفضاء ربما كانت ببغداد لا بموسكو (كاكارين 1961)، حيث وجود المعتزلة، ودليلي أنهم سبقوا نيوتن (ت 1727) بالجدل في الجاذبية، واستخدموا التفاحة مثالاً، حتى كتبت بحثاً تحت عنوان "تفاحة المعتزلة" بما يُقابل تفاحة نيوتن الشَّهيرة. استغرق اللقاء بهؤلاء الشباب حوالى الساعتين، ولم تنته أسئلتهم ومداخلاتهم. وجدتهم يحاولون تحمل مسؤولية زمنهم فكرياً وثقافياً، ولم ألحظ فيهم تطرفاً، بما يُقابل أترابهم من الذين فشا في عقولهم وأفئدتهم التزمت إلى حد تغييب العقل، ووصل بهم المصير إلى الاعتقاد بعشاء الجنة عقب الانتحار. ومن يدري لو عاصروا لشيخ عبد الله عزام الفلسطيني (قتل 1989) لجندوا إلى أفغانستان ثم صاروا ضمن الأفغان العرب فـ"القاعدة"، وهنا تأتي أهمية بحثهم عن الفكر العقلي الذي لا يبيح قتل الناس تحت شعار الجهاد. كان الفارق المميز بين الفئتين أن هؤلاء نظروا في الدِّين مع العقل وأولئك طلبوا الدِّين بلا عقل. وكل ما نراه مِن تمادٍ في الجهل يحسب مِن الفئة الثَّانية، والحق أن المعتزلة سخروا من الشَّفاء بطرد الجن، وغيرها من مغيبات العقل، حتى قيل: "مِن بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن" (التَّنوخي، نشوار المحاضرة)، فتأمل العبارة، وتأمل دوافع الشَّباب المستجيرين بالمعتزلة.